باب
٢ – عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ – رضى الله عنها – أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ – رضى الله عنه – سَأَلَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – “أَحْيَانًا يَأْتِينِى مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ -وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ- فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ”. قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
*****************

1 – وذكر السهيلي أن في كيفية نزول الوحي عَلَى سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سبع صور:

الأول: المنام. كما جاء في هذا الحديث .

ثانيها: أن يأتيه الوحي في مثل صلصة الجرس كما جاء فيه أيضًا.

ثالثها: أن ينفث في روعه الكلام كما جاء في الحديث السالف، وقال مجاهد وغيره في قوله تعالى: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} هو أن ينفث في روعه بالوحي.

رابعها: أن يتمثل له الملك رجلًا كما جاء في هذا الحديث وقد كان يأتيه في صورة دحية .

خامسها: أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقها الله تعالى، له ستمائة جناح ينتثر منها اللؤلؤ والياقوت.

سادسها: أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كليلة الإسراء، أو في النوم كما جاء في الترمذي مرفوعًا: “أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ .. ” الحديث .

وحديث عائشة الآتي: “فجاءه الملك فقال: اقرأ” ظاهره أن ذَلِكَ كان يقظة، وفي “السيرة”: “فأتاني وأنا نائم” ويمكن الجمع بأنه جاءه أولًا منامًا توطئة وتيسيرًا عليه ورفقًا به.

وفي “صحيح مسلم” من حديث ابن عباس مكث – صلى الله عليه وسلم – بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يوحى إليه .

سابعها: وَحْيُ إسرافيل كما جاء عن الشعبي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وكِّل به إسرافيل فكان يتراءى لَهُ ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء ثمَّ وكَّل به جبريل ،
2- قوله – صلى الله عليه وسلم -: (“أَحْيَانًا يَأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ”) والصلصلة -بفتح الصادين المهملتين-: الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة، قَالَ الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا ينتبه أول ما يقرع سمعه حتَّى يفهمه من بَعدُ .

قيل: الحكمة في ذَلِكَ أن يتفرغ سمعه، ولا يبقى فيه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه ، وكذلك قَالَ المهلب يعني قوة صوت الملك الوحي ليشغله عن أمور الدنيا، وتفرغ حواسه فلا يبقى في سمعه ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك .
3- قَالَ أبو الحسن علي بنُ بطال : وعلى مثل هذِه الصفة تتلقى الملائكة الوحي من الله تعالى، وقد ذكر البخاري في كتاب التوحيد وغيره عن ابن مسعود: إِذَا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا: ماذا قَالَ ربكم؟ قالوا: الحق .

وقيل: معنى الحديث هو: قوة صوت حفيف أجنحة الملائكة لشغله عن غير ذَلِكَ، ويؤيده الرواية الأخرى: “كأنه سلسلة عَلَى صفوان” أي: حفيف الأجنحة.

4- والجرس هو الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب، كره – صلى الله عليه وسلم – صحبته في السفر؛ لأنه مزمار الشيطان كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان . 

وقيل: كرهه لأنه يدل عَلَى أصحابه بصوته، وكان يحب ألا يعلم العدو به حتَّى يأتيهم فجأة، حكاه ابن الأثير قَالَ ابن دريد: واشتقاقه من الجرس أي: الصوت والحس .
5- قوله: (“فَيُفْصَمُ عَنِّي”) فيه روايات: أصحها: “يَفْصِم” بفتح الياء المثناة تحت وإسكان الفاء وكسر الصاد، قَالَ الخطابي: معناه: يقطع وينجلي ما يغشاني منه، قَالَ: وأصل الفصم القطع ومنه: {لَا انْفِصَامَ} ، وقيل: إنه الصدع بلا إبانة،  

فمعنى الحديث: أن الملك فارقه ليعود.
6- قوله: (“وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ”) أي: فهمت وجمعت وحفظت.
7- قوله (“يَتَمَثَّلُ”) أي: يتصور.
8- قولها: (وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا) الجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ، والصدغ: ما بين العين إلى الأذن، وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، ومعنى (يتفصد) يسيل.
9- و (عرقًا): والمعنى: أن الوحي إِذَا كان ورد عليه يجد لَهُ مشقة ويغشاه كرب لثقل ما يُلقى عليه، قَالَ تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، كما روي أنه كان يأخذه عند الوحي الرحضاء يعني: البُهْر والعرق من الشدة، وأكثر ما يسمى به عرق الحمى، فكان جبينه يتفصد عرقًا كما يتفصد لذلك، وإنما كان ذَلِكَ ليبلو صبره ويحسن تأديبه، ويرتاض لاحتمال ما كُلِّف من أعباء النبوة.

10- في الحديث إثبات الملائكة، والرد عَلَى من أنكرهم من الملحدة والفلاسفة، ذكر ذَلِكَ أبو عبد الله بن المرابط.
11- في الحديث -كما قَالَ ابن عبد البر- دلالة عَلَى أن الصحابة كانوا يسألونه عن كثير من المعاني، وكان – صلى الله عليه وسلم – يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ، حتَّى أكمل الله دينه (ولله الحمد) 

اختصره ماجد محمد العريفي

يوم الاحد ١٧-٧-١٤٣٧
اختصر المختصر ماجد محمد العريفي

يو الثلاثاء 14-3-1438هـ