قوله { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}
وعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلُهُ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ قَالَ: كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا يَعْنُونَ النَّاسَ. [٢]
وفي رواية الطبري عن قتادة في قوله:”أتجعل فيها من يُفسد فيها” قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله:”أتجعل فيها من يفسد فيها” [٣]
وعن الْحَسَنُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَ لَهُمْ إِنِيِّ فَاعِلٌ.
أَفْضَوْا بِرَأْيهِمْ فَعَلَّمَهُمْ، عِلْمًا، وَطَوَى عَنْهُمْ عِلْمًا عَلِمَهُ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ، فَقَالُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ.
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . [٤]
وعن ابن جُريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا:”أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”؟. [٥]
وقال الثعلبي : وقال أكثر المفسرين: أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب،
قال ابو كندا وأقرب الاقوال لقلبي هو قول الحسن وقتادة وابن جريج.
قال الطبري وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، واشار الى ترجيحه .
فقال الطبري : فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:”أتجعل فيها من يفسد فيها”، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر:
فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ … عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ
فحذف قوله”دعوني للتي يقال لها عند صَيدها”: خامري أمّ عامر.
إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده.
فكذلك ذلك في قوله:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها”، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:”إنّي جاعل في الأرض خليفة”، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى.
قال ابو كندا هو الأصح والاولى ،لورود الروايات في ذلك بأسنيد مقبولة ، وهو أيضا من باب { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)} فإبراهيم لم ينسب المرض لله عز وجل مع ان الله عز وجل هو الذي قضا وقدر المرض.
وايضا فيه دلالة على ان سؤال الملائكة ليس للاستنكار او الاستخبار او اتعجب انما هو سؤال ابتدائي يتضمن اشارة الى رغبتهم او طلبهم للخلافة بدل من ادم بقولهم { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } كرها للمعصية. من باب قوله { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) }
فأظهروا كرههم للمعاصي بقولهم { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } لأنهم يعلمون ان الله عز وجل يكره الفساد في الارض وسفك الدماء ،
واظهروا استعدادهم للخلافة بذكر محاسنهم بقولهم { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } وهذا لا يتنافى مع طبيعة الارض فقد صرح الله عز وجل بإمكان ذلك فقال { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ }
لهذا ناسب الجواب من الله تعالى بقوله { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
واما قول من قال انهم قاسوه على الجن فهو ضعيف ولا ينبغي القول به ، لعدة اسباب
الاول : لم يرد فيه رواية مقبولة صرحت بأن الملائكة قالوا هذا القول قياسا على فعل الجن .
كما قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا فِي الأَرْضِ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، فَقَالُوا بِالْقَوْلِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. [٦]
الثاني : ان الروايات المقبولة التي ذكرت ان الجن سكنوا الارض وافسدوها ، لم تنقل عن الرسول ﷺ ، فهي اذا اسرائليات لا تصدق ولا تكذب، وعلى هذا قد يكون من سكن الارض قبل ادم
كان صالحا لا يفسد ولا يسفك كالملائكة او كائنات اخرى لا نعلمها ، فلما اخبر الله عز وجل ان بني ادم سيسفكون ويقتلون تعجبوا وقالوا ضعنا مكانهم فنحن اصلح منهم واقوى .
الثالث : ان هذا القول يتضمن قول لا ينبغي ان نقول به ، وهو ان قياس الملائكة كان صحيحا ولم يخطؤا بل صدقوا، فقد كثر الفساد في الارض وسفك الدماء ، ويقتضي هذا القول انهم اعلم من الله عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا –
لذلك اقول لا ينبغي القول بأن الملائكة قاست على الجن.
قال ابو كندا والناظر في احاديث الرسول ﷺ يعلم ان الله اخبره انه سيكثر الفساد والقتل اخر الزمن ، فكما اخبر الله عز وجل رسوله ﷺ لا يمنع انه اخبر ملائكته.
قال ابو كندا أما ان سئلتم لماذا قال الله عز وجل { قالوا اتجعل فيها } ولم يقول (وقالوا) او (فقالوا ) ؟
الجواب ان هذه القصة من ضمن خطاب تعديد النعم عليهم ، فليس من المهم ترتيب القصة، المهم ابراز النعمة التي تفضل عليهم بها ، والنعمة التي في قوله { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
هي رغبة الكائنات في الخلافة ، بل أن افضل الكائنات في ذاك الوقت وهم الملائكة رغبوا في ذلك ، الا ان الله عز وجل اختار بني ادم عليهم .
قال ابو حيان : وَالْجُمْلَةُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى، فَالْأَصَحُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَا يُؤْتَى فِيهَا بِحَرْفِ تَرَتُّبٍ، اكْتِفَاءً بِالتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها، أَتَى بَعْدَهُ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ،
وَنَحْوَ: قالُوا سُبْحانَكَ، قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ،
وَنَحْوَ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ،
قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ،
قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ،
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ مَوْضِعًا فِي قِصَّةِ مُوسَى، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فِي إِرْسَالِهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمُحَاوَرَتِهِ مَعَهُ، وَمُحَاوَرَةِ السَّحَرَةِ، إِلَى آخَرِ الْقِصَّةِ، دُونَ ثَلَاثَةٍ، جَاءَ مِنْهَا اثْنَانِ جَوَابًا وَوَاحِدٌ كَالْجَوَابِ، وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ
وقال ابن عاشور : وَفَصَلَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْفَاءِ أَوِ الْوَاوِ جَرْيًا بِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُتَّبَعَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَالَ زُهَيْرٌ:
قِيلَ لَهُمْ أَلَا ارْكَبُوا أَلَاتَا … قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ آلَافَا
أَيْ فَارْكَبُوا وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا.
وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ … كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ
وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي أَمْثَالِهِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الْعَاطِفِ بِتَكْرِيرِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ ، فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ تَقْتَضِي الْإِعَادَةَ فِي الْغَالِبِ فَطَرَدُوا الْبَابَ فَحَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ.
وَرُبَّمَا عَطَفُوا ذَلِكَ بِالْفَاءِ لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ.
وَمِمَّا عُطِفَ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ } فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٢٣، ٢٤] .
وَقَدْ يُعْطَفُ بِالْوَاوِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ } إِلَخْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٣٢، ٣٣]
وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حِكَايَةَ التَّحَاوُرِ بَلْ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَقْوَالٍ جَرَتْ أَوْ كَانَتِ الْأَقْوَالُ الْمَحْكِيَّةُ مِمَّا جَرَى فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } [غَافِر: ٢٥] إِلَى قَوْلِهِ: { وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى }[٢٦] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: { وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } [٢٧] ثُمَّ قَالَ: { وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [٢٨]الْآيَةَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ،
وَلَيْسَ قَوْلِهِ: { قالُوا أَتَجْعَلُ } جَوَابا لـ(إذ) عَامِلًا فِيهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: { أَتَجْعَلُ فِيها } هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ وَأَنْ تَصِيرَ جُمْلَةُ (إِذْ) تَابِعَةً لَهُ إِذِ الظَّرْفُ تَابِعٌ لِلْمَظْرُوفِ.
قال ابو كندا فصل الجواب ولم يعطف بالواو والفاء فيها دلالة او اشارة الى ان الله عز وجل ذكر لنا الملخص من الخطاب ، او مانحتاجه من ذكر هذا الموقف
قال الزجاج ومعنى (يَسفِكُ) يصُب، يقال سفك الشيءَ إذا صبَّه
قال ابو كندا ولا ارى ان دلالات السفك هي دلالات الصب وان اتفقا في المعنى العام
قال ابو كندا ويبقى سؤال يحيرني هل القتل او سفك الدماء من الفساد في الارض فكان العطف من باب عطف الخاص على العام ، او ان الفساد في الارض غير سفك الدماء !!!
—————-
[٢] قال ابو كندا اخرجه ابن ابي حاتم والرواية مقبولة
[٣] قال ابو كندا والرواية مقبولة
[٤] رواه ابن ابي حاتم قال ابو كندا الرواية مقبولة
[٥] قال ابو كندا اخرجه الطبري والرواية مقبولة
[٦] قال ابو كندا اخرجه ابن ابي حاتم والرواية مقبولة