الوسوم
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
قوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }
عن الْحَسَنُ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالَ لَهُمْ: إِنِّي فَاعِلٌ. [١]
قال الطبري : أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا .
قال ابو كندا: ان المتأمل في كلمة (جعل) بمعنى (صار) إلا ان كلمة (صار) تدل على تغير اصل الشيء فيتغير اسمه ، اما ( جعل ) فتدل على تغير الشيء مع بقاء اصله واسمه.
فـ(جعل) فيها دلالة التصيير مع بقاء الاصل. والله اعلم.
والمتأمل في ايات الله عز وجل يجد ذلك المعنى واضحا، قال الله عز وجل { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }
وقال عز وجل { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) }
وقال الله سبحانه وتعالى { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}
وقال سبحانه { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7) }
فالاية الاولى لو كان معنى جعل خلق لأصبح المعنى لو خلقناه ملكا لخلقناه رجلا ، وهذا عبث من الكلام .
والاية الثانية لو قلنا معنى جعل خلق لكان المعنى واذا ابتلى ربه بكلمات قال اني خالقك للناس اماما، فكيف يكلمه ويقول له اني سأخلقك اماما
وهذه الايات تدل على ان كلمة ( جعل ) ليس فيها دلالة الخلق ألبته.
قوله { خَلِيفَةً }
قال الطبري : والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده.كما قال جل ثناؤه { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) } [سورة يونس: ١٤] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم.
ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلَفًا.
وكان ابن إسحاق يقول “إني جاعل في الأرض خليفة”، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم .[٢]
وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها – وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها – ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.أ،هـ
قال ابو كندا ومنه قول الله عز وجل { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ(133)}
وقال ابو كندا : اختيار الطبري هو الاصح والادق في المعنى .
وحتى تعرف لماذا دقق الطبري في المعنى وقصرها على معنى : إذا قام مقامه فيه بعده، ولم يتعدى بها الى العمارة ، لأنه لو كان يفهم من الخلافة العمارة ما استفهمت الملائكة وقالت { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فكيف يقولون ذلك وهم يعلمون ان من دلالة الخلافة العمارة والافساد في الارض وسفك الدماء ليس من اعمار الارض!!!!.
إذن، على ما قاله الطبري فالخليفة لا يطلق على شخص الا اذا قام مقام شخص قبله قد هلك، او عجز او اُزال .
لذلك قال الله عز وجل عن داود خليفة في الارض ولم يقل خليفة الله في الارض { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} فداود خلف السلطان الذي قبله وهو طالوت في الحكم ، وخلف النبي الذي قبله في النبوة ، ولم يخلف الله عز وجل ، تعالى الله عز وجل عن ذلك .
وبهذا يتضح بطلان قول السمعاني في تفسيره عندما قال :
وَقيل: إِنَّمَا سمى خَليفَة لِأَنَّهُ خَليفَة الله فِي الأَرْض؛ لإِقَامَة أَحْكَامه، وتنفيذ قضاياه، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح.
لان قولك خليفة الله في الارض كما تفهم العرب ان الله هلك او عجز او زال من الارض وهذا قام مقامه ، تعالى الله عن ذلك.
اذن ، فآدم خلف الكائنات التي كانت في الارض بعدما هلكت.
والرسل خلفوا بعضهم في الرسالة
والانبياء بعضهم خلف في النبوة وبعضهم لم يخلف فيحيى وعيسى كانا نبيين في زمن واحد، ولوط كان نبي في زمن ابراهيم.
وذرية نوح ومن معه في السفينة خلفوا بعضهم البعض في اعمار الارض.
{ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
وقال
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) }
عن السدي: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض)، قال: أما ” خلائف الأرض ” ، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم .[٣]
قال ابن عاشور : وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ أَوْ يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالْعَلَامَةِ.
قال الطبري فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلَفًا؟
قال ابو كندا ليس هناك رواية صحيحة تحدد من سكن الارض الا رواية ابن ابي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ فِي الأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ آدَمُ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، فَأَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ، سَفَكُوا الدِّمَاءَ، فَبَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ الْمَلائِكَةِ فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ، فَقَالَ اللَّهُ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ قَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ .[٤]
وقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْجِنَّ كَانُوا فِي الأَرْضِ يُفْسِدُونَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَلَكِنْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، فَقَالُوا بِالْقَوْلِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ. [٥]
قال ابو كندا وهذه الروايات ليست عن الرسول ﷺ ، فلعلهم اخذوه من كتب بني اسرائيل او من كتب الاقباط
لذلك لا يسلم بها ، لأنها لم ترد من الرسول ﷺ إنما اخذت من كتب اهل الكتاب ، فقد يكون خلافة ادم للجن وقد يكون خلافته لكائنات غيرهم .
ويبقى سؤال عندي اذا كان معنى الخليفة هو من يقوم مقام من بعده.
فكيف نقول ان ادم مستخلف على الارض وابليس هبط معه على الارض
هل هذا يدل على ضعف قول ان المستخلفين هم الجن ؟
هل كان الملائكة هم المستخلفون في الارض؟
هل هناك كائنات اخرى غير الملائكة والجن استخلفهم بني ادم؟
لا اعلم ،
الذي اعلمه ان الكائنات الموجودة حينئذ الملائكة والجن والبشر ، والله اعلم
—————-
[١] اخرجه ابن ابي حاتم ، وقال ابو كندا الرواية مقبولة
[٢] اخرجه الطبري وابن ابي حاتم قال ابو كندا رواية الطبري لا اقبلها ، ورواية ابن ابي حاتم اقبلها ، فهي مقبوله من جهة ابن ابي حاتم
[٣] قال ابو كندا اخرجه الطبري والرواية مقبولة
[٤] رواه ابن ابي حاتم قال ابو كندا الرواية صحيحة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
[٥] قال ابو كندا اخرجه ابن ابي حاتم والرواية مقبولة