قال ابو كندا : وما يشكل على القائل ان الاستعاذة هي الاستجارة ، ان لغة القران هي لغة السماء ، واعجازه في نظمه ، لهذا اي كلمتين مختلفتي الحروف لا يمكن ان يكون لهما نفس المعنى البته ، بل لابد ان احدهما مختلف عن الاخر بزيادة معنى او نقصه .
فقولهم ان الاستعاذة هي الاستجارة ،يقصدون بذلك ، ان اقرب معنى للاستعاذة هو الاستجارة ، لأنهما متفقتان بالمعنى العام مختلفتان في الدلالات .
فالاستعاذة هي نوع خاص من انواع الاستجارة لها ما للاستجارة وعليها ماعلى الاستجارة، الا ان الاستجارة معناها اعم فالاستجارة مستمدة من الجار ، لأن من يطلب الاستجارة عند العرب فهو يطلب الحماية كما تحمي العرب جارها ، وهو اللجوء لطلب الامان والضمان وعدم التعرض كحفض الجار، وليس فيها دفع الضرر إن اصابك .
اما الاستعاذة فمعناها اخص ، وهو اللجوء لطلب الامان بدفع الضرر إن اصابك المكروه.
ولو تأملت مارواه مسلم بسنده الى الرسول ﷺ انه قال” مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ “.
ومارواه مالك بسنده عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ : مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ؟ ” فَقَالَ : لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ “.
لوجدت ان الرسول ﷺ قال لم تضرك ولم يقل لم تصيبك ، فالاستعاذة لا تعني حمايتك حتى لايصيبك شي ، بل قد يصيبك لكنه لا يضرك ، اما الاستجارة فلا تعني دفع الضرر ، فإن اصابك لا يدفعون الضرر عنك ولكنهم يضمنون ارجاع حقك لك .
قال ابن عطية : الاستجارة، والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه . أ،هـ
قال ابن كثير : وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ . أ،هـ
وحتى نتصور المسئلة دعني اضرب لك مثال لعل وعسى تتضح المسئلة اكثر
لو قام رجل بالاستجارة من امير المدينة للتجارة وبعد ان دخل المدينه هو وابنه ، وبعدما اقاما في المدينة ، اصيب ابنه بطلقة من بندقية احد الاشخاص بالخطأ فشلت اطرافه ،
- لا تقل هذه ليست استجارة لأن الابن اصيب –
فالاستجارة ليست حراسة، انما هي ضمان إن اعتدى عليك احد ، أن يؤخذ حقك منه ويرد عليك لأنهم ضمنوا ذلك لك،
فالاستجارة مبنية على مكانة الشخص بين قومة وقوته، فإن كان الناس يحترمونه لمكانته بينهم او يخافونه وعلموا انك في جواره لم يتعرضوا لك –
نعود الى المثال ، فلو اصيب ابنه بالخطأ وشلت اطرافه، فيجب على المستجير به ان يأتي بمن اصاب ولده ويحاكمه ويأخذ حقهما منه حتى يرضيا ، ولكنه ليس بمطالب ان يشفي الابن من شلله قد يحاول لكن ان لم يستطع لا يقدح في اجارته ، ويعد عند العرب انه اوفى بإستجارته .
اما ان استعاذ بالبشر كالملك او الامير فلابد ان يرجعه الى حالته السليمة ويشفيه من الشلل، وهذا لا يستطيع عليه البشر، لذلك لا تستعيذ العرب بالبشر، وانما تستعيذ بآلهاتها التي تظن انها تدفع الضرر كالجن والاصنام والطواغيت .
اما اذا نزل منزل فقال ” أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ” عملا بقول الرسول ﷺ “مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ “. مسلم
فإنه اذا اصاب ابنه طلقة من بندقية احد الاشخاص بالخطأ فلن تشله ، لأنه استعاذ بالله عز وجل ، وستجد ان الاطباء يقولون سبحان الله كان بينه وبين الشلل ( واحد ملّي )
قال ابو كندا ومن الامور المتشابهه بين الاستجارة والاستعاذة ، انهما تشابها في طلب الامان وكيفية الالتجاء
فالاستعاذة كالاستجارة لها حدود زمانية ومكانية
والاستجارة كالاستعاذة في الاركان وهي الطلب والقبول
فلابد ان تطلب الاستجارة ويقبلها المستجير وكذلك الاستعاذة لابد ان تطلب الاستعاذة ويقبلها الله عز وجل .
هنا سيأتي سؤال في الذهن كيف اعلم ان الله قبلها؟
الجواب:
ارسل الله عز وجل لنا رسولا من البشر ليبلغنا عنه ماهي الاستعاذة التي سيقبلها ، والاستعاذة التي اذا شاء قبلها واذا شاء لم يقبلها .
هنا تتجلى رحمة الله عز وجل ان ارسل لنا رسول يخبرنا بما يحب الله عز وجل وما لا يحب.
فالله عز وجل ملك الملوك ذو العظمة والجبروت وهو الإله العظيم ، اذا قضا عليك امرا فلابد ان يصيبك مهما دعوت ومهما فعلت ، سيصيبك سيصيبك ، ورحمة الله تتجلى في القدر ، فإن قبل استعاذتك فسيدفع الضرر، وان لم تستعذ فدعائك سيخفف القدر .
إذن ، فأي استعاذة اخبر بها النبي ﷺ وصح عنه ذلك، فهي رسالة من الرحمن الرحيم انه سيقبلها ان دعوته كما اخبرك الرسول ﷺ .
قال ابو كندا : ولقد تأملت في الفرق بين الاستعاذة والاستجارة في القران والسنة فوجدت ثلاثة امور ،
الاول ؛ ان الاستعاذة تطلب من الله عز وجل ، فالعرب تستجير بالبشر وتستعيذ بللآلهة
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
قال ابن تيمية ” الاستعاذة لا تكون إلا بالله في مثل قول النبي ﷺ ( أعوذ بوجهك ) و ( أعوذ بكلمات الله التامات ) و ( أعوذ برضاك من سخطك ) ونحو ذلك وهذا أمر متقرر عند العلماء ” ا.هـ الفتاوى 35/273
الثاني : أن الاستعاذة يلزمك ذكر ما تستعيذ منه، كما قال الله عز وجل { وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ }
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ }
{ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)}
وعَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ : ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ “. احمد < قال ابو كندا الحديث حجة >
تأمل كل هذه الادلة ستجد الاستعاذة من شيء معين لابد ان يذكره المستعيذ
اما الاستجارة فتكون عامة وليست مخصصه بشيء
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6) }
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
الثالث ان الاستعاذة: طلب الامان بدفع الضرر – أي تمضى في الامر لا خوف عليك وان اتاك شيء لايضرك-
اما الاستجارة :فهي طلب الامان بالحماية وبالضمان – اي امضي في الامر لا خوف عليك وان اتاك شيء وضرك سنضمن لك اننا سنأخذ لك حقك
لذلك الاستعاذة لا تطلب الا من الله
اما الاستجارة فتطلب من البشر
الرابع : ان الاستعاذة يحدد زمانها ومكانها (المعيذ) وهو الله عز وجل، اما الاستجارة فالذي يحدد الزمان والمكان هو المستجير -طالب الاستجارة-
فالاستعاذة يحدد الله عز وجل وقتها او ممانها عن طريق رسوله ﷺ
كقوله ﷺ ” مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ “.
الخامس : الاستعاذة لها صيغة خاصة لابد ان تقال حتى تضمن ان الله عز وجل يقبلها .
كقوله ﷺ ” أَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّكَ “.
ولو تأملت ما اخبر الرسول ﷺ لابي بكر الصديق رضي الله عنه ، عندما سأله فقال له يارسول الله أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. قَالَ : ” قُلِ :
اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ “. احمد < قال ابو كندا الحديث حجة >
لوجدت ان هذا الحديث متوفرة فيه كل شروط الاستعاذة فإذا قلتها سيقبلها الله عز وجل منك حتما
فهذه الرسالة ، حدد فيها صيغة الاستعاذة وحاجتك من الاستعاذة ومتى تقال .
فإن غيرت الصيغة او الوقت او المكان ، فلله عز وجل الحق في قبولها او رفضها . فسبحانه وتعالى رب العرش العظيم لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وبعد هذا كله وبعد البحث في معنى ( اعوذ ) ،استطيع ان اقول ان معنى اعوذ اي التجئ الى الله لطلب الامان بدفع الضرر.