الوسوم

القول في تأويل الاستعاذة
تأويل قوله: {أَعُوذُ} .
قال أبو جعفر: والاستعاذة: الاستجارة. وتأويل قول القائل: ” أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ” أستجيرُ بالله – دون غيره من سائر خلقه – من الشيطان أن يضرَّني في ديني، أو يصدَّني عن حق يلزَمُني لرَبي.

قال ابو كندا : قال الطبري ” وتأويل قول القائل {أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ” ولم يقل تأويل قول الله عز وجل ، لأن هذه الجملة ليست من القران .
فالله عز وجل امرنا بالاستعاذة عند قراءة القران فقال { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ونحن ننفذ امره فنستعيذ بالله عند قراءة القران فنقول : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم .

قال ابو كندا: بعد الاطلاع على كتب التفسير وكتب اللغة لم اجد تعريف دقيق للاستعاذة لذلك اصتنعت له تعريفا فإن كان حق فهو من الله وان كان خطأ فمن نفسي والشيطان .
فأقول ان الاستعاذة هي اللجوء لطلب الامان بدفع الضرر.

اما المفسرون فقد اختلفوا في معنى الاستعاذة على عدة معاني وهي:
الاول الاستجارة اي ( طلب الأمان والضمان )
والثاني الالتجاء
والثالث الاعتصام أي ( والامساك والالتصاق) ونتيجته (المنع)
والرابع اللواذ أي ( التخفي والتستر)
والخامس الالتجاء والاستجارة والاعتصام

قال ابو كندا فأما من قال ان معنى الاستعاذه هو الالتجاء ، فأرى ان هذا وصف عام للاستعاذة وليس معنى للإستعاذة فقط ، فالالتجاء يدخل فيه الاستعانة والاستجارة والاستعاذة والاعتصام واللواذ والفرار اليه والإواء والحصن .
اما من قال الاعتصام ، فأرى انه قد أخطأ لأن الاعتصام من دلالاته
الامساك والشيطان لا يمسك عنك، بل يستمر في الوسوسة وانت تقرأ .

واما اللواذ فلا يصلح ان نفسر به الاستعاذه ولا اظن انه يصح ان تلوذ بالله لأن اللواذ في استخدام العرب واستخدام القران التخفي والتستر ، { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)، ولم ارى اية في القران او حديث صحيح او حسن ذكر فيه اللواذ بالله ، لذلك لا يصلح لمعنى الاستعاذة.

قال ابو كندا قد يكون تفسير الطبري الاستعاذة بالاستجارة من باب تعريف الشيء بالمثل ، فمعنى الاستعاذة لا يطابق معنى الاستجارة .
فلو كان معنى الاستعاذة يطابق معنى الاستجارة لقال الله عز وجل- ولا مبدل لكلماته – استجير بالله من الشيطان الرجيم، كما قال عز وجل { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

وقد يكون تفسير الطبري مبني على بعض الاثار التي رويت بالمعنى .
فبعض الرواة يروي بالمعنى فيجعل مكان الاستعاذة الاستجارة .
واليك مثالا على ذلك :
فهذا حديث حذيفة المعروف الذي رواه احمد في مسنده فقال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ سُلَيْمَانَ – يَعْنِي الْأَعْمَشَ – عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ ، عَنْ صِلَةَ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : ” سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ “، وَفِي سُجُودِهِ : ” سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى “. قَالَ : وَمَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا فَسَأَلَ، وَلَا آيَةِ عَذَابٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْهَا. < قال ابو كندا الحديث حجة >
وقد رواه الدارمي ومسلم وابن ماجة وابو داود والترمذي والنسائي كلهم بلفظ التعوذ .
وهناك روايتان واحدة عند ابن ماجة وواحدة عند النسائي شذا عن لفظ التعوذ فقالا استجار ، فروى ابن ماجه بسنده عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَجَارَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَنْزِيهٌ لِلَّهِ سَبَّحَ. < قال ابو كندا وفي اسنادهما مقال >

وايضا اذكر لك مثال اخر على ان بعض الرواة يرون بالمعنى فيقولون الاستجارة بدلا من الاستعاذة
روى احمد في مسنده فقال : حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثًا، قَالَتِ الْجَنَّةُ : اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ ثَلَاثًا، قَالَتِ النَّارُ : اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ النَّارِ “.
وروى الترمذي : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ الْجَنَّةُ : اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ : اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ “.
قال ابو كندا لعلكم لاحظتم ان الرواية الاولى بلفظ استعاذ ، واما الرواية الثانية فهي بلفظ استاجر ، ومع ان الروايتين ليستا بحجة الا ان اسرائيل اضبط من ابي الاحواص في ابي اسحاق ، وهذا يدل على ان ابي الاحواص رواها بالمعنى
قال عيسى بن يونس : إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ الرجل السورة من القرآن . وقال عنه ابو حاتم الرازي: ثقة متقن ، من أتقن أصحاب أبي إسحاق .