الوسوم
نقدس, الملائكة, التفسير, الخليفة, جاعل, حاج آدم موسى, سورة البقرة, سبحان
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
قد يقول قائل كيف تقول الملائكة { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ }
وقد قال الله عز وجل عن الملائكة { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27) }
قلنا ان الملائكة لم تسبقه بالقول فالله عز وجل هو الذي ابتدئهم في الخطاب ، وهو من باب قول موسى عليه السلام، قال الله عز وجل { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }
وكما تعلمون ان رسولنا الكريم ﷺ قال عن موسى عليه السلام
” لا تخيروني على موسى ؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله “. البخاري
وقد يكون من باب قول خليل الله ابراهيم عليه السلام، قال عز وجل { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }
وقد يكون من باب فعل سيد ولد ادم رسولنا الكريم ﷺ عندما اسري به قال ” ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال : ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة، قال : فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعني، فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى قلت : وضع شطرها، فقال : راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق. فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال : ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته فقال : هي خمس وهي خمسون ؛ لا يبدل القول لدي. فرجعت إلى موسى فقال : راجع ربك. فقلت : استحييت من ربي. البخاري
قوله { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
قال ابو كندا اختلف اهل التأويل في قوله { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
وعن قتادة “ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون” فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. [١]
عن ابن جريج : إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه . [٢]
وقال الطبري : وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت:”أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء”، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن.
فلذلك قال لهم ربهم:”إني أعلم ما لا تعلمون”.
يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم.
وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ -ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه-
فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم.
وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر.
وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.أ،هـ
اما الزمخشري فقد قصرها على المصلحة فقال قوله { أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ } أى أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفى عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال اللَّه كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.أ،هـ
واما الراغب فقال : قال تعالى في جوابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فعرّض ولم يصرح ها هنا، ليريهم فضيلة الإنسان وما خصوا به من العلم والعمل عياناً ومشاهدة ، والإجمال في هذه الآية بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} هو المبين بما بعده من الآية التي [تليها] ..كلها، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كَمَال فَضْلِه، وقُصُورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي.أ،هـ
وقال ابو السعود : قوله { إني أعلم ما لا تعلمون } ليس المرادَ بيانَ أنَّه تعالى يعلم مالا يعلمونه من الأشياءِ كائناً ما كان فإن ذلك مما لا شُبهة لهم فيه حتى يفتقِروا إلى التنبيه عليه لاسيما بطريق التوكيد بل بيانَ أن فيه عليه الصلاة والسلام معانيَ مستدعيةً لاستخلافه إذ هو الذي خفيَ عليهم وبنَوا عليه ما بنَوْا من التعجّب والاستبعاد .
فما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن تلك المعاني والمعنى إني أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه وإنما لم يقتصِرْ على بيان تحققِها فيه عليه السلام بأن قيل مثلاً إن فيه ما يقتضيه من غير تعرض لإحاطته تعالى به وغفلتِهم عنه تفخيماً لشأنه وإيذاناً بابتناء أمرِه تعالى على العلم الرصينِ والحكمةِ المتقنة وصدورِ قولِهم عن الغفلة.
وقيل معناه إني أعلمُ من المصالحِ في استخلافه ما هو خفيٌّ عليكم وأنَّ هذا إرشادٌ للملائكة إلى العلم بأن أفعالَه تعالى كلَّها حسنةٌ وحِكمةٌ وإن خفي عليهم وجهُ الحسْنِ والحِكمة وأنت خبيرٌ بأنه مُشعِرٌ بكونهم غيرَ عالمين بذلك من قبلُ ويكون تعجبُهم مبنياً على تردّدهم في اشتمال هذا الفعلِ لحكمةٍ ما وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بأن ذلك متضمِّنٌ لحكمةٍ ما ولكنهم متردّدون في أنها ماذا ؟ هل هو أمرٌ راجعٌ إلى محض حُكم الله عزَّ وجلَّ أو إلى فضيلةٍ من جهة المستخلَف ؟فبيّن سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمالِ والإبهامِ أن فيه فضائلَ غائبةً عنهم ليستشرفوا إليها ثم أبرَزَ لهم طرفاً منها ليعاينوه جَهرةً ويظهَرَ لهم بديعُ صنعِه وحكمتِه وينزاحَ شبهتُهم بالكلية.أ،هـ
وقال ابن كثير : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَّرْتُمُوهَا مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ ، أَنَّ لِي حِكْمَةً مُفَصَّلَةً فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ وَالْحَالَةُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا تَعْلَمُونَهَا .
وَقِيلَ: بَلْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُمْ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} طَلَبًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا الْأَرْضَ بَدَلَ بَنِي آدَمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِنْ أَنَّ بَقَاءَكُمْ فِي السَّمَاءِ أَصْلَحُ لَكُمْ وَأَلْيَقُ بِكُمْ. أ،هـ
قال ابو كندا اعجبني قول الطبري فهو ادق في تفصيل بعض المعانى لاية {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}،
وقول الزمخشري بين فيه لماذا قال { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
وحتى يتضح لك مناسبة قوله { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } سأحاول ان اشرح لك على قدر ما استطيع ، فاعذرني ان قصرت في ذلك.
اخبر الله عز وجل الملائكة المقربين انه جاعل في الارض خليفة – اي قرر وحكم في ذلك -وان هذا الخليفة هو ادم واني سأبتلي ذريته ليعلموا من المقدس لي ومن المسبح ومن الكافر ، وعلى اثر هذا الابتلاء سيسفكون الدماء ويفسدون في الارض ،
ومع ذلك ستكلفون بهم ،
فأخبِروا الملائكة الاخرين بأنه سيكونُ من الملائكة من يكون حفظة عليهم ومنكم من سيوكل بهم وبأروحهم ومنكم من سيرسل اليهم ومنكم من سيتعاقب عليهم في الليل والنهار وسأسألكم عنهم وغير ذلك …،
فتعجبت الملائكة لأنها تعلم ان الله عز وجل يكره سفك الدماء والفساد في الارض ، فاشارت الى انها اصلح لهذا الامر من بني ادم فهم كلهم يسبحون بحمد الله ويقدسون له وان ابتلاهم بالخلافة.
وكان الله عز وجل يعلم ان منهم ابليس كان لا يقدس لله مع انهم كانوا يرونه يسبح لله .
فأتى الرد اني اعلم عنكم اكثر مما تعلمونه عن انفسكم او قومكم او جنسكم.
ولأن الله عز وجل عادل حكيم رب ، ربَّى الملائكة واصلح شأنهم حتى لا يزكوا انفسهم وعرفهم ضعف حالهم ،
بجمع الملائكة ثم عرض عليهم- الملائكة المخاطبون المزكون انفسهم وقومهم بالتسبيح والتقديس – فقال الله عز وجل للملائكة المخاطبين ، انبؤني بأسماء هؤلاء الملائكة الذين جمعتهم لكم ، وكلمة انبؤني تدل على ان اسماء الملائكة الذين جمعوا مخفية عن الملائكة المخاطبين .
ان كنتم صادقين في تزكيتك لهم في ظاهرهم وباطنهم، ولا تكون التزكية الا بعلم الحال ، فإن نبئتوني بأسمائهم الظاهرة فأنا مصدقكم بعلمكم عن احوالهم الباطنة .
هذا الابتلاء عرف الملائكة ضعف حالهم وخطئهم في تزكية انفسهم ، فرجعوا الى الله واعترفوا بخطئهم ورضوا بحكم الله ، لذلك قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم .
قال صاحب المنار : إِذَا كَانَ مِنْ أَسْرَارِ اللهِ – تَعَالَى – وَحِكَمِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَنَحْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَلَا مَطْمَعَ لِلْإِنْسَانِ فِي مَعْرِفَةِ جَمِيعِ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَحِكَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
قال ابو كندا كنت ارفض ان يكون ابليس من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة خلقت من نور ، ولكن عندما قرأت قول الله عز وجل { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) } وهذه الاية تدل على ان الله عز وجل لم يمنع ذلك من سنن الكون فهو محتمل عند الله عز وجل اذا اقتضت حكمته بذلك.
وايضا قد كنت ارفض ان الملائكة تعصي الله عز وجل ولكن بعدما قرأت قول الله عز وجل { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28)) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(29)}
وقرأت قول بعض العلماء ان هذا ايضا قد يكون محتمل ، وسأشرح اقوال العلماء في ذلك عند عصيان ابليس .
لذلك كله اقول قد يكون قول مجاهد وابن جريج صحيحا .
———
[١] قال ابو كندا اخرجه الطبري والرواية مقبولة ومقاربة للصحيحة
[٢] قال ابو كندا اخرجه الطبري والرواية مقبولة