الوسوم

, ,

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

قوله {قَالَ رَبُّكَ }

قال الثعالبي :وإِضافةُ «رَبٍّ» إِلى محمد ﷺ ومخاطبتُهُ بالكاف- تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه، وإِظهار لاِختصاصه به .

قال ابو كندا: انتقل الله عز وجل في الخطاب من توجيه الخطاب للناس مباشرة بقوله { يا أيها الناس } و {كيف تكفرون } الى مخاطبتهم عبر رسوله ﷺ بقوله { ربك }،
لأن هذه القصة التي نبأه بها لم تكن العرب تعرفها في ذلك الوقت على اختلاف دياناتهم، الا القليل ممن قرأها من كتب انبيائهم عنها ، ومع أن الرسول ﷺ كان امي لا يقرأ إلا أنه اخبرهم بها، وفي هذا دليل للكفار واهل الكتاب أن هذا رسول من الله عز وجل
فهذه القصة هي ( نبأ ) لم يحضرها بشر ، كما قال تعالى { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }
ومع ذلك نبأهم بها الرسول ﷺ فأصبحت خبرا يتناقله الناس بالإخبار .
اما مخاطبتهم بذكر نعمة الحياة وخلق جميع مافي الارض للبشر فهذا الامر يعرفونه لذلك وجه الخطاب لهم مباشرة فقال { كيف تكفرون }

وقال الزجاج : وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب
بتَثْبيتِ نبوة النبي – ﷺ – أنَّ خَبَرَ آدم وما أمره اللَّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا مِنْ علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي – ﷺ – دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.

قوله { لِلْمَلَائِكَةِ }

قال أبو جعفر: والملائكة جمع ( مَلأكٍ ) ،
غيرَ أن أحدَهم – اي غير انه يقال لمفردهم (مَلَك ) – ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز,
وذلك أنهم يقولون في واحدهم: (مَلَك) من الملائكة, فيحذفون الهمز منه, ويحركون اللام التي كانت مسكنة.
وإنما يحركونها بالفتح, لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها،
فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا, فقالوا: ملائكة.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها, فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال, وبهمزها في أخرى, كقولهم: ” رأيت فلانا ” فجرى كلامهم بهمز ” رأيت ” ثم قالوا: ” نرى وترى ويرى “, فجرى كلامهم في ” يفعل ” ونظائرها بترك الهمز, حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في ” ملك وملائكة “, جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم, وبالهمز في جميعهم.

وقد يقال في واحدهم، مألك, فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب, وشأمَل وشمأل, وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم
” مألك ” أن يجمع إذا جمع على ذلك ” مآلك “, ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا,
وأصل الملأك: الرسالة.
فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة, لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده. أ،هـ

قال ابو كندا وبعد قرائتي لأقوال المفسرين واللغوين المختلفة في اشتقاق ( مَلَك) وجدت ان قول الطبري هذا، هو افضلها شرحا وحجة.
مع اني اتخفظ على قوله ( واصل الملأك : الرسالة …الخ) ولا اوافقه عليه .
لأن الله عز وجل قال { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا }
وقوله (جاعل ) يدل ان الله عز وجل صير الملائكة الى رسل، وليس اصلهم رسل
بل إن قول الله عز وجل { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75)} يدل ان الله عز وجل لم يجعلهم كلهم رسل وانما اصطفى منهم فقط
والدليل على ذلك قول الله عز وجل { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71) }
فهؤلاء الملائكة خزنه وليسوا رسل، فكيف نقول ان معنى ملائكة رسل؟!!!
ثم ان المتعارف عليه عند العرب ان الرسول يوصل رسالة كلاما يقوله للمرسل اليه فقط ، ولا يتصرف بشي غير قول الرسالة ، فإن تعدى توصيل الرساله بفعل ما كأخذ او شراء او بيع او هبة انتقل اسمه من رسول الى اسم اخر كـ(عامل او موكل )
والله عز وجل عندما وصف ملك الموت قال عنه الذي وكل بكم ولم يقل الذي ارسل لكم او رسول الموت ، { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11) }
وكذلك الرسول ﷺ عندما قال ” من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكل به : آمين، ولك بمثل “. [١]
وهنا قال الرسول ﷺ ” الملك الموكل به ” ولم يقل الملك المرسل له .
بينما الرسول قال عنه رسول او نبي ، وقال الله عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) }
وقال عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25))
وقال سبحانه وتعالى { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) }
وبهذا يتبين لك ان الله عندما يرسل الى البشر مرسول يبين هل هو رسول او نبي او عامل او موكل فليس كل من يرسلهم رسول فقط.
فإن قال قائل فما تقول في قوله تعالى { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ(81) }
سأذكره بالاية التي ذكرت من قبل { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } وهؤلاء من الرسل الذين اصطفاهم الله ليخبروا لوط عنه ، متى موعد العذاب وما يفعل قبل بداية العذاب .
ولو قلنا بقول ان كل من ارسله الله بأمر بفعل امر ما هو رسول، فما تقول في قول الله عز وجل { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)}
وقوله عز وجل { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ }
وقول الله سبحانه { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْـزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) }
كل هؤلاء ارسلهم لمهمات يأدونها ومع ذلك لم يكونوا رسل ولا نقول ان معاني اسمائهم يتضمن الرسالة .
فالله عز وجل اذا ارسل رسول يخبرنا انه رسول وهكذا تفعل العرب ليبين لهم انه مجرد رسول وليس له من الامر شيء الا ما يأمره به ربه { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128) }
{ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) }
وتأمل قول الله عز وجل في كتابه وستجد ما ذكرت لك ، قال الله تعالى { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} اي ارسلناك لتكون مهمتك ان تكون رسولا تخبر الناس ما امرك ان تخبرهم به ، وهذه وظيفة الرسل لذلك قال الله عز وجل عن الرسول ﷺ { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4) }
واليك هذه الايات حتى تتضح لك الصورة اكثر
قال الله عز وجل { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
وقال عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ }
وقال الله سبحانه وتعالى { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) }
وقال سبحانه وتعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }

فإن قلتم فما معنى (مَلَك) ؟
قلت لا اعلم ، الذي اعلمه هو أن مادة ( الميم ، واللام ، والكاف ) ( م، ل ، ك) عند العرب لها دلالة القوة وليس فيها دلالة الرسالة.
والذي اعلمه ان قول الله عز وجل { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ }
يدل على صفة حسن خَلق الملائكة ، ويفهم من الاية انها صفة ملازمه لهم وعامة لذلك شبهوا يوسف بهم، ولو كانت هذه الصفة خاطئة او خاصة ببعضهم لبينها الله عز وجل في الاية او في اية اخرى
وايضا قولهم كريم يدل على شرفهم، قال ابن فارس : الْكَافُ وَالرَّاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ صَحِيحٌ لَهُ بَابَانِ: أَحَدُهُمَا شَرَفٌ فِي الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ شَرَفٌ فِي خُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ. يُقَالُ رَجُلٌ كَرِيمٌ، وَفَرَسٌ كَرِيمٌ، وَنَبَاتٌ كَرِيمٌ. وَأَكْرَمَ الرَّجُلُ، إِذَا أَتَى بِأَوْلَادٍ كِرَامٍ.
فهل معنى (مَلَك) هو شديد الحسن ؟!!!!!

قال ابو كندا ويبقى السؤال هل كان خطاب الله عز وجل لكل الملائكة ام لبعضهم؟

لم يتحدث المفسرون عن ذلك ، لذلك سيكون جاوبي من فهمي مبني على اشارات من المفسرين الذين قرأت لهم ،
واقول والله اعلم ان الخطاب لبعض الملائكة خاصة وليس للمملائكة عامة والله اعلم.
وفي القران ايات يخاطب الله عز وجل فيها بعض البشر بذكر الاسم العام ، ولا يقصد انهم كلهم قالوا ذلك او فعله جميعم، مثل قول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) } فقد اجمع المفسرون على ان هذا الخطاب كان خاص بقوم في عهد الرسول ﷺ .
وايضا قول الله عز وجل { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) }
وقال عز وجل { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32))
وهذا من كلام العرب .
قال ابو كندا : قول الله عز وجل { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ }
هو خطاب لبعض الملائكة وليس كل الملائكة وقد يكون الخطاب للملائكة المقربين والله اعلم
والقول بقول انهم بعض الملائكة سيساعدك على فهم هذا الموقف الغيبي في الايات التي بعدها.

————-
[١] رواه مسلم