الوسوم
القول في تأويل {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
ذكر ابن جرير بسنده عن سعيد بن جُبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض .
<قال ابو كندا الرواية مقبولة >
قال ابن جرير : وقد روى عن رسول الله ﷺ خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم.
عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله ﷺ ” إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب “.
< قال ابو كندا الحديث حجة، وهو موجود في احمد بنفس سند يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر بسنده عَنْ أبي موسى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ >
فعلى التأويل الذي تأول”آدم” من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصْل”آدم” فعلا سُمي به أبو البشر، كما سمي”أحمد” بالفعل من الإحماد، و”أسعد” من الإسعاد، فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ، يعني به بلغ أدمتها -وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين، كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.ا،هـ
وقال مكي بن ابي طالب (ت ٤٣٧) الهداية الى بلوغ النهاية ” وذكر النحاس أنه أفعل من أديم الأرض وأدمتها، وهو ظاهر وجهها، ومنه سمي الإدام لأنه وجه الطعام وأعلاه والعرب تسمي الجلد الظاهر أدمة، والباطن بشرة”.
****
القول في تأويل قوله تعالى: {الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة.
⁃ فعن مجاهد، في قول الله:”وعلم آدم الأسماء كلها”، قال: علمه اسم كل شيء.
<قال ابو كندا الرواية صحيحة >
⁃ وعن قتادة قوله:”وعلم آدم الأسماء كلها” حتى بلغ:”إنك أنتَ العليمُ الحكيم” قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم”، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه .
< قال ابو كندا الرواية مقبولة >
⁃ وعن قتادة في قوله:”وعلم آدم الأسماء كلها”، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل، وهذا بحر، وهذا كذا وهذا كذا، لكل شيء، ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.”.
< قال ابو كندا روايته مقبوله >
⁃ قال ابو كندا ورى ابن ابي حاتم في تفسير بسنده عَنْ مُجَاهِدٍ: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا قَالَ: عَلَّمَهُ كُلَّ دَابَّةٍ وَكُلَّ طَيْرٍ وَكُلَّ شَيْءٍ.
<قال ابو كندا الرواية صحيحة >
⁃ وعَنْ حُمَيْدٍ الشَّامِيِّ قَالَ: عَلَّمَ آدَمَ النُّجُومَ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَسْمَاءَ النُّجُومِ.
< قال ابو كندا الرواية صحيحة >
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.
⁃ وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة”
قال ابو كندا ولم يورد فيه ابن جرير الا رواية عن الربيع لا اقبلها .
⁃ قال ابن زيد في قوله:”وعلم آدم الأسماء كلها”، قال: أسماء ذريته أجمعين.
<قال ابو كندا رواية مقبولة >
قال ابن جرير : وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله:”وعلم آدم الأسماء كلها” إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال:”ثمّ عرَضهم على الملائكة”، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم.
ولا تكادُ العرب تكني بـ(الهاء والميم ) إلا عن أسماء بني آدم والملائكة.
وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بـ(الهاء والألف ) أو بـ(الهاء والنون)، فقالت:”عرضهن” أو”عرضها”، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف.
وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [سورة النور: ٤٥] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم – إذا اختلطت – بـ(الهاء والألف) أو (الهاء والنون) .
فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة”. أ،هـ
قال ابو كندا بلا شك ان ابن جرير اعلم مني وافهم لذلك سأطرح سؤال واقول :
قال الله عز وجل { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } وظاهر هذا الكلام يدل ان الله عز وجل اراد العموم ، ولو اراد الخصوص لم يقل { كلها} او لقال اسماءهم كلهم .
وهذا ما ايدته الروايات الصحيحة عن مجاهد وقتادة.
واما ماصح من رواية ابن زيد انه قال أسماء ذريته أجمعين. فأسماء ذريته داخله في اسماء كل شي.
فلماذا لم يأخذ ابن جرير بظاهر الكلام الذي ايده السلف؟؟؟
ويكون عِلمُ ادم في الاسماء كلها معجزة له .
قد يقول قائل ابن جرير لم يأخذ بظاهر الكلام لوجود قرينة وهي قوله { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
فبما ان الذين عرضوا على الملائكة هم ذريته، فينصرف معنى العموم وهو {الاسماء كلها } الى الخاص بأسماء ذريته .
سأجيب بأن قوله { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } موقف اخر حصل بعد تعليمه للاسماء كلها حتى اسماء ذريته واسماء الملائكة ، ثم عرضهم على الملائكة ليبين ان الملائكة لا تعلم الا ماعلمها الله ، فذرية ادم خلق جديد لم يطلعهم الله عز وجل على اسمائهم – فكان فيهم التحدي والتوبيخ – اما الاسماء الاخرى فقد تكون الملائكة مطلعه عليها .
فليت ابن جرير لم يصرف ظاهر الكلام ويخصصه في الذرية والملائكة فقط.
قال ابن كثير : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا: ذَوَاتَهَا وَأَفْعَالَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ: عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ -: “يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ” فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ . أ،هـ
*****
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ}
قال السمعاني وَإِنَّمَا عرضهمْ على الْمَلَائِكَة لإِظْهَار فضيلته عَلَيْهِم. أ،هـ
وقال أبو جعفر: وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله:”ثم عَرضَهم على الملائكة” نحو اختلافهم في قوله:”وعلم آدمَ الأسماء كلها”.
⁃ قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة .
<قال ابو كندا رواية مقبولة >
⁃ وعن قتادة:”ثم عرضهم”، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة . < قال ابو كندا روايته مقبوله >
⁃ وعَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: ٣١] قَالَ: «عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَيْءٍ , هَذَا بَحْرٌ , وَهَذَا جَبَلٌ , وَهَذَا كَذَا , وَهَذَا كَذَا , لِكُلِّ شَيْءٍ , ثُمَّ عَرَضَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ» فَقَالَ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٣١]
<قال ابوكندا الرواية صحيحة راوه عبد الرزاق في تفسيره>
⁃ عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالَُ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } بِأَسْمَاءِ هَذِهِ الَّتِي حَدَّثَ بِهَا آدَمَ.
<قال ابو كندا الرواية مقبولة >
⁃ وأما الطبري فقد رجح انهم الذرية والملائكة.
قال ابو كندا : وهذا الراجح عندي ، والقرينة على ذلك ، قوله ( أنبؤني ) فكلمة ( نبأ) تدل على الخبر عن شي خفي – غيبي او سر او متكتم عنه او غير ذلك- ، فالنبي سمي نبي لأنه ينبأ عن الله وهو شيء خفي فإذا نبأنا عنه اصبح لنا خبر ، قال الله تعالى { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3))
وقال الله عز وجل { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36))
وقال تعالى { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَـزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64))
فإذا تبين ان دلالة كلمة { انبؤني} هو الخبر عن خفي ، وجدنا ان الاسماء المخفية عن الملائكة هي اسماء ذرية ادم ، اما اسماء الملائكة ، فالملائكة لم يخبروا ادم بأسمائهم لذلك ظنوا ان اسمائهم بالنسبة له مخفية .
واما الراغب فقد قال في تفسيره: الإنباء: إخبار فيه إعلام، وهو متضمن لهما ولذلك كل إنباء أخبار، وليس كل إخبار إنباء.
قال ابو كندا كل الاخبار اعلام ، وليس هناك خبر ليس اعلام
وقال شيخي الذي اقرأ عليه تفسير الطبري ، ان المالكية اجمعوا على ان النبأ هو الخبر المهم ، وقد طلبت منه المصدر وواعدني به .
قال ابو كندا : و {ثم} تدل على التراخي وان هذا موقف غير موقف تعليم الاسماء ،
قال ابو حيان في تفسيره { ثُمَّ عَرَضَهُمْ }: (ثُمَّ) حَرْفُ تَرَاخٍ، وَمَهَلَةٍ، عَلَّمَ آدَمَ ثُمَّ أَمْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى أَنْ قَالَ: { أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ } لِيَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْمَعْلُومُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ عَمَّا تَحَقَّقَ بِهِ وَاسْتَيْقَنَهُ.
وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَقَالَ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ دُونَ مُهْلَةٍ أَنْبِئُونِي، فَلَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ لَمْ يُخْبِرُوا، وَلَمَّا تَقَدَّمَ لِآدَمَ التَّعْلِيمَ أَجَابَ وَأَخْبَرَ وَنَطَقَ إِظْهَارًا لِعِنَايَتِهِ السَّابِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ.أ،هـ
وايضا اسم الاشارة {هَٰؤُلَاءِ } لا تقال الا لعاقل او على انه عاقل .
وكما قال ابن جرير سابقا واعيده مرة اخرى “ولا تكادُ العرب تكني بـ(الهاء والميم) إلا عن أسماء بني آدم والملائكة.
وقال ابن عطية : وقوله تعالى: {هؤُلاءِ} ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة.
******
القول في تأويل قوله جل ذكره {إِن كُنْتُمْ صادقين}.
قال ابن جرير
ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة – القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس.
فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم = بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور – التي هي موجودة – عن أعينكم = أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته – الذين قالوا له:”أتجعل فيها من يفسد فيها”، من جهة عتابه جل ذكره إياهم – نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [سورة هود: ٤٥]-: لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره:”إني أعلم ما لا تعلمون”. يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم.
ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، – فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ – بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم:”أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين” أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء.
فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا:”سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا”، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح – حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم -: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [سورة هود: ٤٧] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له – سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.أ،هـ
قال الثعلبي : فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أراد الله تعالى بذلك: كيف تدّعون علم ما لم يكن بعد، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون.
وقال مكي : قوله: {إِن كُنْتُمْ صادقين}.
جوابه عند المبرد محذوف، معناه: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فأنبئوني.
وقال ابو كندا وبعد ذكر كل هذه الاقوال يتبين لي ان معنى ان كنتم صادقين في أنكم اذا استخلفتم في الارض لن تفسدوا فيها ولن تسفكوا الدماء او ان كنتم صادقين في ان ادم وذريته لن يسبحوا لله ويقدسوه.
-فالملائكة ذكروا التسليح والتقديس وكأن الخليفة لن يسبح الله ولن يقدسه بل سيكون ديدنه القتل والافساد فقط-
فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ تُشَاهِدُونَهُمْ، فَأَنْتُمْ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ أَحْرَى أَنْ تَكُونُوا غَيْرَ عَالِمِينَ.
فقوله ان كنتم صادقين مثل قوله ان كنتم صادقين في الاية السابقة { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)
********
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.أ،هـ
ذكر ابن ابي حاتم في تفسيره : عن النَّضْر بْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ عَنْ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقَالَ: اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنَ السُّوءِ.< قال ابو كندا الرواية مقبولة عندي>
قال الطبري : وسُبحان مصدر لا تصرُّف له . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننزهك تنزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.
قال السمرقندي وقال بعض أهل اللغة:
اشتقاقه من السباحة، لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه، فيكون فيه معنى التبعيد.
قال ابو كندا : ومعنى التسبيح التعظيم بستبعاد العيب والنقص والخطأ،- وكأنك تقول مستحيل ان يأتيه النقص او العيب-
قال الطنطاوي : ولو قال الملائكة: لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز عن معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلغ وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئا غير ما يعلمهم الله، ودخل في ضمن هذا النفي العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها.
******
القول في تأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك.
وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم:”لا علمٌ لنا إلا ما علَّمتنا”، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم:”إنك أنتَ العليم”
يعنون بذلك العالم من غير تعليم، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه.
والحكيم: هو ذو الحكمة.أ،هـ
وقال السمرقندي : الحكيم في أمرك، إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا.أ،هـ
قال الثعلبي : وأصل الحكمة في كلام العرب: المنع. يقال: أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته، أي منعته.
قال جرير:
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم … إني أخاف عليكم أن أغضبا
ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة: حكمة لأنها تمنع الدابة من الاعوجاج، والحكمة تمنع من الباطل، ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل .أ،هـ
وقال الأصمعي: أصل الحكومة: رَدُّ الرجل عن الظلم، ومنه سُمِّيت حَكَمَةُ اللجام، لأنها تَرَدُّ الدابة. أ،هـ
وقال الأزهري: والعرب تقول: حَكَمْتُ وأَحْكَمْتُ وحَكَّمْتُ بمعنى: رَدَدْتُ ومَنَعْتُ، ومن هذا قيل للحاكم: حاكم، لأنه يمنع الظالم من الظلم.
وقال جرير:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ
يقول: امنعوهم من التعرض .
وروي عن النخعي أنه قال: حَكِّم اليَتِيم كما تُحَكَم ولدك. قال أبو عبيد: يقول: امنعه من الفساد، قال: وكل من منعته من شيء فقد حَكّمْتَه وأَحْكَمْتَه، وأنشد بيت جرير.
قال الواحدي : والحِكْمَة: هي العلم الذي يمنع [صاحبه] من الجهل، والحاكم الذي يمنع من الجور، وكل عمل مُحَكَم فقد منع من الفساد .أ،هـ
وقال ايضا: في قول الله عز وجل { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا }
والحكم عند العرب: ما يمنع من الجهل والخطأ ويصرف عنهما .أ،هـ
قال القرطبي : وَالسُّورَةُ الْمُحْكَمَةُ: الْمَمْنُوعَةُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَكُلِّ التَّبْدِيلِ، وَأَنْ يُلْحَقَ بِهَا مَا يَخْرُجُ عَنْهَا، وَيُزَادُ عَلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الْجَهْلِ. وَيُقَالُ: أَحْكَمَ الشَّيْءَ إِذَا أَتْقَنَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ عَمَّا يُرِيدُ.أ،هـ
قال الراغب : والحكيم أصله لمن له الفعل المحكم، لكن لما يصح حصول الفعل المحكم إلا بالعلم [المتقن] صارت الحكمة متناولة للعلم والعمل معاً.
قال الحلبي : والحُكْم لغةً: الإِتقانُ والمَنْع من الخروجِ عن الإِرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابَّة
قال ابو كندا : وبعد ماذكرنا يتبين لنا ان الحكمة هي وضع الشي موضعه للمنع، – سواء كان ذلك المنع هو منع الفساد او منع الشر او منع للاصلاح او منع الخروج عن الارادة.
والحكمة فعل متعدي للغير ، فلا ينطبق الا على الغير ، اما منع النفس فيسمى العقل.
وكلاهما لا يكتسبان الا بالعلم.