حَدَّثَنَا عبدالله بن مسلمة بن قعنب، حَدَّثَنَا مالك، عَنْ يحيى بن سعيد، عَنْ محمد بن إبراهيم، عَنْ علقمة بن وقاص ، عَنْ عمر بن الخطاب، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
” إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “. رواه مسلم
وفي رواية عند البخاري ” الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى “
قال ابو كندا
١- اختلفت الفاظ هذا الحديث بين المحدثين مع انهم كلهم رووه عن يحيى بن سعيد بسنده عن عمر بن الخطاب.
واخترت لفظ مسلم ، لأنه مهتم باللفظ ويحرص على اختياره كما روي له ، ولا يروي بالمعنى ولا يختصر، كالبخاري.
وايضا ذكر مسلم انه سمع هذا الحديث من سبعة محدثين غير قعنب ومع ذلك اختار لفظ قعنب .
وايضا وجدت هذا اللفظ كما هو ، في مسند حديث مالك لاسماعيل القاضي الجهضمي – ت٢٨٢- وبنفس السند عن قعنب.
وايضا وجدت هذا اللفظ كما هو ، عند النسائي (ت ٣٠٣) بسندين ، سند الى قعنب ، وسند الى يحيى ، وسنده الى يحيى ذكره مسلم من دون ذكر اللفظ وهو أَخْبَرَنَا اسحاق بن إبراهيم قَالَ : أَنْبَأَنَا سليمان بن حيان ، ورواية النسائي تبين ان رواية قعنب لم تتغير الفاظها مع تقادم الزمن .
قال ابو كندا وهذه الرواية بلفظ ( إنما ) تدل على أن هناك حديث او أمر ما عن الهجرة، قبل قوله ( إنما ) لكن لم يذكر ،
فقد يكون نقاش طويل بين الصحابة او ان الصحابة كانوا يستوضحون من الرسول ﷺ ،
ويدل ان ذكر الرسول ﷺ للهجرة لأنها كانت هي محور الحديث .
أما رواية البخاري التي رواها بنفس السند عن قعنب وبأسانيد أخرى ولم يبتدأ فيها بلفظ ( إنما ) فهي تشير الى أن الرسول ﷺ ابتدأ الحديث من دون نقاش او استوضاح ، وتشير أيضا إلى أن النبي ﷺ ذكر الهجرة مثالا على العبادات.
٢- قال ابو كندا ولم اختر لفظ رواية سفيان( إنما الأعمال بالنيات ) لأني وجدت اختلافات في الفاظها فرواية الحميدي عن سفيان عند البخاري بلفظ ( إنما الأعمال بالنيات )
وأما رواية احمد عن سفيان نفسه قال ( انما الاعمال بالنية ) ولم يقل ( بالنيات)
فأحمد اخذها من لسان سفيان والبخاري اخذها من الحميدي عن سفيان ، وهذا يدل أن الاقرب للصحة والأضبط في اللفظ هي رواية احمد التي وافقت رواية مالك.
وأيضا لم اختار رواية البخاري التي في صحيحة ( يا ايها الناس إنما الاعمال بالنية وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى )
والتي رواه بهذا اللفظ ابو داود الطيالسي – ت ٢٠٤- في مسنده عن حماد بن زيد وزهير بن محمد عن يحيى بن سعيد
لأني لم اجد المحدثين انتشر بينهم هذا اللفظ .
قال ابو كندا وهذا اللفظ الذي في بدايته ( يا ايها الناس ) يشير الى ان النقاش ازداد حدة فبتدأ الرسول ﷺ بالنداء حتى يوحد اسماعهم ويصغون اليه.
٣- قال ابو كندا
وقوله ( إنما ) للتأكيد الكلام وليست للحصر.
فـ( إنما ) إما لتأكيد الجملة المثبته كقولك : إنما أمرت أن اعبد الله ، او لتأكيد الجملة المنفيه كقولك : إنما أمرت أن لا أشرك بالله .
وتستطيع ان تؤكدهما معا كقول الله عز وجل { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ(36) } الرعد.
قال ابو كندا
وهذا القول لم يقل به إلا القلة القليلة من العلماء كما أعلم.
فقد ذكروا أن ابا حنيفة يقول بهذا القول ، ولا اعلم هل هو قوله أو بعض رجال مذهبه ، وإنما الذي أعلمه ان احمد القدوري الحنفي ( ت٤٢٨ ) قال في كتابه التجريد – وهو في الفقه الحنفي – عن ( إنما )،
“فثبت أنها لا تنفي ما سوى المذكور وإنما تؤكده وقوله: {إنما الله إله واحد} لم يدل على نفي إله آخر باللفظ وإنما ثبت ذلك بدليل آخر”.
واختاره الآمدي -وهو شافعي (ت ٦٣١ ) – في كتابه الأصولي الموسوم بـ الإحكام في أصول الاحكام ،
واطلق على لفظ (إنما) مسمى تأكيد الإثبات ، وكأنه يرمي أن استخدامها في تأكيد جملة الاثبات يغلب على استخدامها في تأكيد جملة النفي.
ونص جمال الدين بن هشام ( ت ٧٦١) في كتابه – مغني اللبيب عن كتب الاعاريب – على بطلان قول من قال أن ( إنما) للحصر وأن حرف ( إن) للإثبات وحرف(ما) للنفي ، فقال:
” وهذا البحث مبني على مقدمتين باطلتين بإجماع النحويين إذ ليست إن للإثبات وإنما هي لتوكيد الكلام إثباتا كان مثل إن زيدا قائم أو نفيا مثل إن زيدا ليس بقائم ومنه إن الله لا يظلم الناس شيئا وليست ما للنفي بل هي بمنزلتها في أخواتها ليتما ولعلما ولكنما وكأنما .أ،هـ
وقال بدر العيني : وقال بعض الأصوليين إنما لا تفيد إلا التأكيد.
وأيضا ارى أن البخاري في روايته التي رواها عن قعنب وهي قول الرسول ﷺ ( الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) دليل أن ( انما ) ليست للحصر، لأنها لو كانت للحصر لما رواه البخاري من دون (إنما) حتى لا يخل بالمعنى.
قال ابو كند :
واما من قال ( إنما ) للحصر، فهم كثير جدا، ولو كان الحق بالكثرة لخترت هذا القول .
فمنذ ان قال الخطابي (ت ٣٨٨) في شرحه لحديث (إنما الاعمال بالنيات ) :
(إنما) عاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه.أ،هـ
تتابع شراح هذا الحديث بعده الى زماننا هذا – فيما اعلم – بتقليده.
فإذا شرعوا في شرح معنى ( إنما ) قالوا هي للحصر ، ثم تجدهم مضطربين في شرحه ، مضطربين في الرد على من اعترض عليهم ومضطربين في تطبيق معناه في كل الايات التي ذكر فيها ( إنما) في القران الكريم وفي كل الاحاديث الصحيحة التي ذكر فيها ( إنما) ، ومضطربين على رد قول من اعترض عليهم ، بل أنهم مضطربون في دلالة الحديث.
وحتى يزول الاضطراب دعونا نفصل الخطاب
فقول (إنما) تتكون من حرفين هما ( إن ) و (ما)
فأما ( إن) فمعناها التأكيد، قطعا ، ولا شك في ذلك.
قد يفهم منها الاثبات لكن لا تدل عليه.
فإذا قلنا لهم هل حرف ( إن) في قول القائل ( إن محمدا رسول الله) هو اثبات للجملة ؟! سيقولون نعم فـ( إن) حرف اثبات .
فإذا قلنا لهم إذا ازلنا حرف ( إن) من جملة ( محمد رسول الله ) هل ازلنا الاثبات في الجملة ؟!! سيقولون لا ، فالجملة في الأصل مثبته وليست منفية .
فإن قلت اذا مافائدة ( إن) سيقولون اثبات الاثبات.
هنا ستعلم ضعف قولهم لأنه ليس من البلاغة اثبات الاثبات.
أما اذا قلت أن معنى ( إن ) هو للتأكيد ستقول ان معنى ( أن محمدا رسول الله ) هو تأكيد الاثبات ، وهذا من بديع البلاغة.
واما قولهم إن حرف (ما) في ( إنما) هي (ما) النافية.
نقول لا نسلم بذلك بل هي ( ما) كافة تكف عمل (إن وأخواتها) لذلك تدخل على إخوانها ( ليت – ليتما) و( لعل-لعلما) و(كأن- كأنما)
فإن قالوا وما فائدة (ما) الكافة الا أنها تكف عمل ( إن) اعرابيا فتجعل المبتدأ والخبر مرفوعا بعدما ان نصبت ( إن) المبتدأ ؟!!!
فنحن نبحث عن المعنى والمراد والاسلوب البلاغي الذي يفيدنا في فهم الخطاب ، ولا نبحث عن الاعراب.
قال ابوكندا :
كانت العرب قبل الاسلام يفهمون من احاديثهم فيما بينهم أن أي تغير في الكلمة من زيادة حرف او تغير حركة اعرابية من نصب رفع او رفع نصب ، أن في هذا التغير زيادة دلالة في المعنى او في الاسلوب الذي يعبر عن المقصد المراد بهذا الخطاب.
وعلى هذا الخطاب نزل القران وخاطبنا به رسولنا ﷺ .
وبعد ان انتشر الاسلام ودخل الاعاجم فيه ، اضطر العرب لوضع قواعد ليتعلم الاعاجم كيف يتخاطبون كما كانت العرب تتخاطب حتى يفهموا مراد كلام الله عز وجل وكلام رسوله ﷺ على لسان قوم رسوله.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)ابراهيم
وسميت هذه القواعد (النحو ).
فاستمر المسلمون في تعلم النحو ثم ارادوا تطبيق هذه القواعد على كل اللسنة العرب فاتسعت الاقوال وكثر الخلاف ، وللأسف الخلاف لا يأتي بخير ، فانشغلوا بهذا الخلاف وألفوا سيل من الكتب للأنتصار لأقوالهم ونسوا المقصد من وضع هذه القواعد وهو فهم المراد من الخطاب.
ياسادة ياكرام إن من وضع هذه القواعد لم يقصد ان (ما) تكف اعراب (إن) بل كان يقصد أنها تكف ما عملته إن في الجملة المثبته فأبرزت وركزت على معنى في الجملة المثبتة فتغير مقصد القائل من الجملة.
واليك هذا المثال
فلو قلت :
“محمدٌ رسولُ الله نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا”.
فبتداءك الجملة بـ( محمدٌ رسولُ الله ) ورفعهما بالضم يدل عند العرب على انك تركز على القائل وصفة القائل ،
فالقائل محمد وليس موسى او عيسى اذا فالنهي هذا لشرعنا،
وأما صفة القائل فهو رسول ارسله الله وليس بشر عادي يأتي بهذا الكلام من فكره واقتراحاته.
فلو قال احد المستمعين : لكنَّ الشيخ الفلاني يقول بالجواز او عدم المنع.
أتعلمون يا كرام أن أوجز عبارة جامعه مانعة للرد عليه عند العرب هي :
“إن محمداً رسولُ الله يقول ذلك”
بهذا الرد الموجز القصير عند العرب كأنك عبرت عن دلالات كثيرة وهي:
اولا : (إن) تدل على التأكيد ، والتأكيد يدل على ثقة المتحدث بما قال وهذا يعطي قوه للعبارة .
ثانيا : اعادة الجملة بعد التأكيد تدل على ان نبرة الصوت علت وأنك متمسك بها أقوى من قبل، وهذا يسمى تغيير معنوي.
ثالثا: الشدة في (نَّ) للتنبيه ، وكأنك تقول انتبه لما سأقول وركز على التغيرات في الجملة حتى تفهم ما اقصد .
رابعا : وهو عمل (إن) هو التركيز على ما تقصده أو ما تريده من الجملة وابرازه برفعه بـ(الضمة) حتى ينتبه السامع لك لما تقصده من تأكيد الجملة ، – وهذا هو عمل (إن) من تأكيد الجملة -.
فإذا قلت” إنَّ محمداً رسولُ الله يقول ذلك”
فإن العرب تفهم من كلامك أنك تقول :
إن الذين ذكرتم انهم يقولون بالجواز او بعدم المنع بشر ، يقولون ذلك من ارائهم او من عواطفهم على غير علم حقيقي بكنه ما يعترضون عليه ، أما محمد فهو رسول من الله عز وجل ، ارسله ليقول لنا ذلك .
- والعرب تعرف ان الامر اذا اتى من الخالق الذي خلق هذا الكون ففيه صلاح لهذا الكون -.
فالنهي ليس من رأيه او لم يُبنى على عاطفته بل هو من الله عز وجل الذي خلق هذه الارض وامرنا بإعمارها.
فإن استمر الخلاف وتوسع الى الحديث عن شرع عيسى وموسى والزبور ، واردت ان تفصل الخطاب وينتهي النقاش،
فإن كان الناس مشغولين بالرد على بعضهم وقد ارتفعت اصواتهم فيستحسن ان تقول : “يا ايها الناس ” حتى ينتبهوا لك وينصتوا.
أما اذا كان الناس منشغلين بذكر الاقوال لكنهم ينتظرون فصل الخطاب منك ، فإنك تبدأ من دون ندائهم فتقول :
“إنما محمدٌ رسولُ الله قد قال ذلك ، فمن أطاعه فاز ، ومن رده كففنا يده” .
اتعلمون ياسادة أنه لو قال ” إنَّ محمداً رسولُ الله قد قال ذلك…”
لعلمت العرب انه اعجمي قد اتقن اللغة العربية مع أنه لم يلحن ولم يخطئ في الإعراب.
ففي عرف العرب من العيب ان تعيد الجملة كما هي من دون زيادة أو نقص .
فلا تعاد الجملة كما هي إلا في أضيق الحدود .
نعود الى جملتنا التي هي
“إنما محمدٌ رسولُ الله قد قال ذلك ، …”
زيادة الـ( ما) هنا، قد زادت المعنى ، بكف عمل (إن) .
ستقولون كيف ؟!! سأقول لكم ،
عمل (إن ) هو رفع مقصد واحد وهو(رسولُ الله ) تريد من السامع التركيز عليه .
فإذا دخلت (ما) على (إن) فكأنها تقول دعك من عمل (إن) في التركز على مقصد واحد، بل ركز على المقصدين كلاهما، لذلك رفعتهما لك بـ( الضمة)
فقولك :
“إنما محمدٌ رسولُ الله قد قال ذلك “
فكأنك تقول تنبهوا لما اقول فأنا ازيد على تأكيدي للمقصد الثاني في الجملة السابقة وهو ( رسولُ الله) بالتأكيد على المقصد الأول وهو( محمد) والثاني معا.
لذلك ستفهم العرب منك أنك تأكد على
أن هذا نبينا محمد ارسله الله لنا ليبلغنا هذا النهي وسنتبعه لأننا مطالبين بتنفيذ اوامر الله مع تعظيمنا لرسله الذين ارسلهم الله على غيرنا كموسى وعيسى ، والاعتذار عن المفكرين والفلاسفة لجهلهم المركب.
ثم سيفهمون من قولك “فمن أطاعه فاز ، ومن رده كففنا يده” المفهوم المتبادر في ذهنكم الان، كما هو.
اعلم والله اني اطلت عليكم في الشرح ومللتم فحتى أنا قد مللت ، ولكن المسئلة تحتاج الى ذلك فتحملوني.
قال ابو كندا :
كيف نقول ( إنما ) للحصر ، وهي تختلف عن اركان الحصر واسلوب الحصر .
فجمل الحصر تبدأ بالنفي العام بـ( لا) النافية او (ما ) النافية ، وتختتم بالاستثناء ، كقولك : ( لا إله إلا الله) او قولك ( ما من إله الا الله )
بينما (إنما) تبدأ بالتأكيد بحرف(إن) وليس فيها استثناء .
ثم لو سلمنا وقلنا لكم هي للحصر فما تقولون في قول الله تعالى {إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ } ٩٨طه
هل ستقولون انه حصر لحصر!!!
هل جملة { إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ } هي حصر لجملة { الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ } !!!!!
أليست هذه الآية كافية للدلالة على أن ( إنما) للتأكيد وليس للحصر.
فإن قال قائل كيف تقول أن ( إنما ) للتأكيد وقد قال الامام العلامة ابن دقيق العيد في كتابه البديع ( إحكام الاحكام ): كَلِمَةُ إنَّمَا لِلْحَصْرِ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَعُورِضَ بِدَلِيلٍ آخَرَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يُعَارَضْ فِي فَهْمِهِ لِلْحَصْرِ وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ.
وَمَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ، وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ.
وقال ابن الملقن في كتابه المعين : بأنَّ ابن عباسٍ من أهلِ اللسان وقد فَهِمَ من حديث “إنما” الحَصر، وقال به.
الا يكفي هؤلاء العلماء لرد قولك!!!
قال ابو كندا
عندما رأيت هذا القول اقتنعت بكلامهم حتى كدت ان امسح كل ما كتبت، فابن عباس هو ابن عم الرسول ﷺ وقد قال الله عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ }
وعندما تأملت كلام ابن دقيق العيد وجدته يسند على ما تقرر في الاصول ، هنا دخلني الشك ، فالاصوليون كما تعلمون الأساس عندهم العقل ومن ثم يسندونه بأي نقل يناسب ماتقرر في العقل من قبل.
لذلك قلت في نفسي لماذا لا ابحث عن قول أهل الحديث!!!
فلما فتحت البخاري وجدته يقول :
بَابُ بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً.
ثم روى بسنده قصة انكار ابو سعيد الخدري على ابن عباس في قوله هذا ورد ابن عباس ان اسامة اخبره ان النبي ﷺ قال ( لَا رِبَا إِلَّا فِي النسيئة ) لاحظوا الى اللفظ قال ( لا ربا الا في النسيئة ) ولم يقل ( إنما الربا في النسيئة ) ورواية البخاري هذه تسقط قول الأصوليين عندي.
ولكن بقي تساؤل في خلدي لماذا اختلف اللفظ مع ان القائل واحد هل تعددت المواقف فاختلفت الالفاظ ام اختلفت الالفاظ لختلاف الرواة.
بدأت أقلب صفحات الحديث فوجدت
لفظ البخاري ( لَا رِبَا إِلَّا فِي النسيئة )
وأما مسلم فعنده عدة الفاظ
الاول ( الرِّبَا فِي النَّسيئَة )
والثاني ( إِنَّمَا الرِّبَا فِي النسيئة )
والثالث ( لَا رِبًا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ )
والرابع ( أَلَا إِنَّمَا الرِّبَا فِي النسيئة )
هنا توقفت وتعجبت من اختلاف اصح كتابين عندنا بعد كتاب الله !!!
لذلك شمرت وبدأت ابحث عن اصح واضبط لفظ لقول الرسول ﷺ .
وكان البحث في الكتب التي حفظت في الصدور والسطور .
مثل موطأ مالك
ومصنف ابن ابي شيبة
ومسند احمد
والبخاري ومسلم والدارمي .
فياسادة ياكرام ماحفظ في الصدور والسطور يستمر وان طال الزمان كما هو لا يتغير ، والقران دليل على ذلك استمر ١٤٤١ سنة وهو لم يتغير فيه حرف ، فإن اخطأ الصدر صححه السطر ، وان حُرف السطر عدله الصدر ، وكذلك موطأ مالك ومسند احمد والبخاري ومسلم فقد اجتهد العلماء في حفظها صدرا وسطرا .
اما ما حفظ سطرا فقط فقد يحرف السطر ويحرق الاصل
كما هو الان في التورات والانجيل .
واما ماحفظ صدرا فقط فهو يموت مع صاحبه ولا يمكن التحقق منه .
بدأت بالبحث مستعين بالله وكانت مخرجات البحث كالتالي
فوجدت في مسند احمد يقول :
حَدَّثَنَا سفيان بن عيينة، حَدَّثَنَا عمرو- يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ – عَنْ أبي صالح، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ؛ وَزْنًا بِوَزْنٍ. قَالَ : فَلَقِيتُ ابن عباس، فَقُلْتُ : أَرَأَيْتَ مَا تَقُولُ، أَشَيْئًا وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ قَالَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ وَجَدْتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أسامة بن زيد، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” الرِّبَا فِي النسيئة “.
قال ابو كندا ابن عيينة حجة ، وعمر بن دينار حجة وابو صالح حجة
قال ابو كندا هذه الرواية هي الرواية الفصل في القصة
فهي اقوى اسناد لها واقرب اسناد .
ولذلك قدم مسلم هذه الرواية على الروايات الأخرى ،
وكما تعلمون ان مسلم قد اشار الى تقديم الرواية الاقوى في مقدمته.
فإن قلت لي إن البخاري روايته ايضا حجة وقد خالف في اللفظ اختلاف جذري ، فقد قال
حَدَّثَنَا علي بن عبد الله، حَدَّثَنَا الضحاك بن مخلد، حَدَّثَنَا ابن جريج، قَالَ : أَخْبَرَنِي عمرو بن دينار، أَنَّ أبا صالح الزيات أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أبا سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ. فَقُلْتُ لَهُ : فَإِنَّ ابن عباس لَا يَقُولُهُ. فَقَالَ أبو سعيد: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ : سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ ، أَوْ وَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ : كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنِّي، وَلَكِنَّنِي أَخْبَرَنِي أسامة أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ : ” لَا رِبَا إِلَّا فِي النسيئة “.
وقال ابو كندا علي بن عبدالله هو ابن المديني حجة ضابط ، والضحاك حجة ،وابن جريج ثقة كان يدلس ويرسل كما قال ابن حجر، وعمر بن دينار حجة ، وابو صالح حجة.
أجيبك ستلاحظ من الوهلة الاولى بعد السند عن ابي سعيد الخدري في هذه الرواية فلو حسبت من شيخ البخاري وهو ابن المديني الى ابي صالح ستجدهم خمسة شيوخ ،
وأما رواية احمد فمن شيخ احمد الى ابي صالح ستجدهم ثلاثة، وكل ما قل الشيوخ كان الفظ ادق واضبط.
ثم ان هناك ملاحظة على رواية ابن جريج عن عمر بن دينار ذكرها المحدثون في زمانه وهي ان ابن جريج يروي عن عمر بن دينار بالمعنى ، اي لا يدقق في اللفظ ، بينما رواية سفيان عن عمر بن دينار اضبط .
فقد قال شعبة:من أراد عمرو بن دينار فعليه بالفتى الهلالي – اي ابن عيينة-
وقال أبو داود في سؤلاته لأحمد: سمعت احمد بن حنبل يقول : سفيان أسند ، عن عمروبن دينار ، وعند ابن جريج رأيه .
وقال عنه أيضا : أثبت الناس في عمرو بن دينار : ابن عيينة ، ثم ابن جريج .
وهذا ايضا يدل ان لفظة ( الربا في النسيئة ) اضبط من رواية ( لا ربا الا في النسيئة ) وكأن ابن جرير رواها أن ابن عباس فهمها كذا .
ويدل على ان ابن جريج رواها بالمعنى ، مارواه الدارمي عنه بلفظ اخر فقال
أَخْبَرَنَا أبو عاصم، عَنِ ابن جريج، عَنْ عبيد الله بن أبي يزيد، عَنِ ابن عباس قَالَ : أَخْبَرَنِي أسامة بن زيد، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” إِنَّمَا الرِّبَا فِي الدَّيْنِ “.
وقد قال ابو كندا عبيد الله بن أبي يزيد ثقة ، وقال الذهبي في “تاريخ الإسلام” : هو من أكبر شيوخ ابن عيينة .
لذلك لا نستغرب لو وجدنا رواية من سفيان عنه في ربا النسيئة
فقد قال احمد في مسنده
حَدَّثَنَا سفيان، عَنْ عبيد الله بن أبي يزيد، سَمِعَ ابن عباس يَقُولُ : حَدَّثَنِي أسامة بن زيد، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ – وَقَالَ مَرَّةً : أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ – أَنَّهُ قَالَ : ” الرِّبَا فِي النسيئة “.
قال ابو كندا هذه الرواية حجة وهي اقوى اسناد واقربها الى الرسول ﷺ من كل الروايات الأخرى لذلك ينبغي لنا الأخذ بها وترك ما سواها .
واذا تأملت هذه الرواية تعلم من الوهلة الاولى انها اقرب للرسول ﷺ فبين شيخ احمد الى ابن عباس اثنان وهما سفيان وشيخه ، اما رواية الدارمي فبين شيخه الضحاك الى ابن عباس ثلاثة ، وكلما كان السند اقرب كان اللفظ اقرب لذلك اقدم رواية احمد بلفظ ( الربا في النسيئة ) ، واما رواية الدارمي فهي دليل على ابن جريج يروي بالمعنى.
فإما ان قلت روى مسلم بهذا الاسناد عن أربعة كلهم عن سفيان عن عبد الله بن أبي زيد بلفظ ( إنما الربا في النسيئة )
أجيبك احسنت فقد رواه عن أربعة بهذا اللفظ ، لكن مسلم لم يقدم هذه الرواية وايضا خصص اللفظ لواحد منهم وهو عمرو ، اذا الأخرين لم يقولوا بهذا اللفظ وخاصة ان اللفظ كلماته معدودة ، فقال :
حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر – وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو – قَالَ إِسْحَاقُ : أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ : حَدَّثَنَا سفيان بن عيينة، عَنْ عبيد الله بن أبي يزيد، أَنَّهُ سَمِعَ ابن عباس، يَقُولُ : أَخْبَرَنِي أسامة بن زيد، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ” إِنَّمَا الرِّبَا فِي النسيئة “.
ثم ان لفظة ( الربا في النسيئة ) رواها الحميدي في مسندة بكلتا الروايتين مثل احمد ، والحميدي من شيوخ البخاري ، وايضا عبد الرزاق في مصنفه روى القصة عن معمر وعن سفيان عن عمر بن دينار بهذا اللفظ .
فكل هذه الأحديث تدل على ان ابن عباس فهم من قول الرسول ﷺ ( الربا في النسيئة ) التخصيص وليس الحصر ، فهو فهم خصوصية الربا في النسيئة ، ولم يفهم الحصر ، واما من رواها ( لا ربا الا في النسيئة ) او ( ليس الربا الا في النسيئة ) فهو رواها بالمعنى وجعل اللفظ بطريقة الحصر ، ليفهم تلاميذه مافهم ابن عباس ، لذلك افتى بجواز البيع بربا الفضل
وايضا لفظ ( إنما الربا في النسيئة ) هي رواية بالمعنى بطريقة تأكيد اللفظ بـ( إنما ) ليفهم التلاميذ كيف فهمها ابن عباس لأجل ذلك احل بيع الصرف.
وبعد هذا كله يبين ضعف ما اقره الاصوليون وصحة قول أن لفظة ( إنما ) هي للتأكيد وليس للحصر
إذا فقول الرسول ﷺ ” إنما الاعمال بالنية” للتأكيد على ان الاعمال اساسها النية.
فلو اراد الرسول ﷺ الحصر المطلق لقال : لا اعمال الا بنية .
فلو قال ذلك لقلنا ان اعمال المجنون والنائم والمخطئ والناسي والطفل الرضيع كلها بنية.
ولو اراد الرسول ﷺ الحصر المقيد لقال : ما من اعمال الا بنية .
فلو قال ذلك لقلنا أن اكثر البشر يعملون بقصد الا المجنون والناسي والمخطيء ،
وهذا نفس معنى إنما الاعمال بالنية .
لكن سنأخذ عليه مأخذ ونقول أن ( من ) تبعيضية في حصر وهذا يدل على قلة الاعمال وهذا لا يتناسب مع الواقع فجل عمل البشر الطبيعي يعملونه بنية ، والقلة منهم وهم المجنون أو الناسى او المخطئ، فلا يعقل ان احدا ذهب للحمام وهو يريد ان يأكل الا رجل مجنون او اهم به طامة فأصبح يعمل اعمال لايقصدها من هول الطامة فنسي او اخطأ
ف(من) هنا لا تتناسب مع المعنى، لذلك لم يقله الرسول ﷺ لهذا المعنى بل قال ( إنما الاعمال بالنية )وانتم تعلمون ان الرسول ﷺ اعطاه الله جوامع الكلم
٤- قوله ( الاعمال )
قال ابو كندا :
و(ال) في (الأعمال ) هي (ال) العهد وليست للاستغراق، والدليل على ذلك ابتداءه بـ(إنما) وهي تشير ان هناك حديث عن الأعمال، وأيضا قوله (وانما لامرئ مانوى ) تدل على انه يتحدث عن افعال القلب، وايضا ذكر الهجرة يدل على (ال) العهد.
وايضا لا يعقل ان تصدر اعمال من دون نية الا من مجنون او حيوان.
ومعنى (ال) العهد اي الاعمال التي كان الحديث عنها وهي اعمال العبادات ، و(ال) الاستغراق فمعناها جميع الاعمال.
٥- قال ابو كندا :
والمقصود بـ(الأعمال) هي اعمال الجوارح ومنها اللسان، فلا تدخل فيها أفعال القلب.
فالنية هي من افعال القلب .
وحتى يتبين لك ما اقصد ينبغي لك معرفة الفرق بين الفعل والعمل.
قال البخاري (ت٢٥٦) :فَالْفِعْلُ إِنَّمَا هُوَ إِحْدَاثُ الشَّيْءِ، وَالْمَفْعولُ هُوَ الْحَدَثُ لِقَوْلِهِ: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} فَالسَّموَاتُ وَالْأَرْضُ مَفْعولُهُ.
ومعنى تعريف البخاري ان الاساس هو الفعل كقول الله عز وجل( فعال لما يريد)، ونتيجة الافعال هي العمل كقول الله عز وجل ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) ،
قال ابن فارس : الْفَاءُ الْعَيْنُ وَاللَّامُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ عَمَلٍ وَغَيْرِهِ.أ،هـ
قال ابو كندا ولذلك من وضع النحو سمى الفعل فعلا ولم يقل العمل والمعمول والمعمول به ، لأن العمل اساسه الفعل.
فالافعال لا تكون الا بإرادة والاعمال لا تصدر من عاقل الا بقصد .
قال ابو كندا : لذلك اتصف الله عز وجل بها ، فقال ( فعال لما يريد) فالله عز وجل افعاله غير محدوده أما خلقه فأفعالهم حددها الله عز وجل لهم .
واذا كانت افعالهم محدوده فمن باب اولا اعمالهم محدوده.
لذلك نسب الله عز وجل الفعل له كثيرا فقال {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}- الفيل-، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) -الفجر:6- (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) -إبراهيم:45-.
اما العمل فلم ينسبه له عز وجل الا مرة واحدة { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ)
لأن العمل قد يأتي بقصد وبغير قصد.
فافعال كل الخلق محدودة .
فلو نظرت الى وصف الملائكة لعلمت ان الله عز وجل جعل افعالهم بإرادة الله فهم يفعلون ما امرهم الله عز وجل { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
وقال عز وجل { لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
وبهذا تكون اعمالهم ايضا بأوامر الله، فلا يعصون الله عز وجل.
وأما الحيوانات فقصر الله افعالهم على ارادة العيش من الاكل والشرب والنوم والتوالد فقط، لذلك كل اعمالهم الخارجة عن هذه الارادة فهي اعمال من دون قصد.
وخذ هذا المثال البقر يحرث الارض وهذا يطلق عليه عمل ، لكن البقر لايقصد حرث الأرض ولا يفهم لماذا يقوم بذلك ، فعملهم الحرث نتيجة فعلهم الذي يقصدون منه الهروب من ضرب المزارع لهم ، فإذا ضربهم يفعلون المشي حتى يهربوا من الضرب ، وهذا الفعل المستمر ينتج العمل وهو الحرث، مع ان البقر لا يقصد الحرث انما كان يقصد الفعل وهو الهرب من الضرب.
وكانت العرب تسمي البقر التي تعمل في الحرث العوامل كما روى ابن ابي شيبة (ت٢٣٥) عن عَلِيٍّ قَالَ: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» – قال ابو كندا من منهجي الاستشهاد باللغة لا يتطلب حجية الحديث ، الا ان كان هناك تناقض في استخدام الكلامة سنؤكد الصحيحة ، واقوال العلماء المسندة هي اقرب للصحيحة من ابيات العرب التي ليس لها اسناد-
وقال ابن فارس : وَالْيَعْمَلَةُ مِنَ الْإِبِلِ: اسْمٌ لَهَا اشْتُقَّ مِنَ الْعَمَلِ.
لذلك العامال يسمى عامل لأنه يفعل اعمال على قصد غيره.
واما البشر والجن فاختبرهم الله عز وجل بإعطائهم حرية في الافعال محدودة يستطيعون ان ينتجوا بها اعمالا على مقاصدهم
ثم كلفهم بعبادته وخص البشر بأن جعلهم خلفاءه في الارض .
لذلك سخر لهم ما في الارض وجعلهم هم الأعلى.
وخذ هذا المثال
البشر لا يستطيعون الطيران ، فالله عز وجل قصر ارادتهم عن الطيران ، فاستخدمو فعل التفكير والحساب وحركات الجوارح حتى صنعوا طيارة يطيرون بها .
فإذا طار الانسان فهذا عمل والطائرة صنع.
ولهذا لا يؤاخذنا الله في اللغو في ايماننا لأنها من دون قصد لكن يؤاخذنا بما في قلوبنا لأنها بإرادة { لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
اتمنى اني أوضحت ما قصدت.
قال ابو كندا : وقرأت ان هناك القلة من العلماء اخرجوا الاقوال من الاعمال ، ولكني لم اجد نص اقوالهم ، ولا ادري لماذا استبعدوا الاقوال من العمل ، مع ان العرب تعتبر الأقوال عمل والدليل وصف الرسول ﷺ الخوارج فقال: ” سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تراقيهم”. البخاري
وهنا بين ان هناك فرق بين القيل وبين الفعل.
قال ابو كندا : وبعد هذا كله يتبين لنا أن قول الرسول ﷺ ( إنما الأعمال بالنيات) يقصد بالاعمال هي الجوارح ومنها اللسان ولا يقصد افعال القلب لأن النية هي فعل من افعال القلب تحدث عمل الجوارح.
وهذا يدل على ان النية محلها القلب ، ولوكان محلها اللسان لقال : النية بلسان
قال ابن الملقن (ت٨٠٤) الثاني عشر: “الأعمال” حركات البدن، ويتجوز بها عن حركات النفس، وإنما عبر بـ “الأعمال” دون “الأفعال”؛ لئلا يتناول أفعال القلوب، كالخوف والرجاء وغيرهما، فإنها متميزة لله تعالى بصورتها.أ،هـ
وقبل ختام هذه النقطة أجيب على سؤال اراه في الانترنت كثيرا وهو مالفرق. بين قوله عز وجل ( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وبين قوله (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159))
او لماذا قال الله عز وجل في الاية التي تتحدث عن المؤمنين ( بما كانوا يعملون ) وعن اليهود والنصارى والمبتدعة ( بما كانوا يفعلون )
قال ابو كندا : والله اعلم ان اية { بماكانوا يعملون} يشير الله عز وجل أنه سيحاسبهم بكرمه ورحمته، فهو لن يحاسبهم على افعالهم بل سيحاسبهم على اعمالهم .
كالصلاة هي عمل فمن صلاها في وقتها وان كانت افعاله مستعجله ويفكر فيها حتى لا يدري انه انتهى من الصلاة الا بسلام الامام سيكتب له اجر الصلاة الذي اعده الله عز وجل لمن أداء الصلاة ويغض عن افعاله الناقصة التي اتم بها الصلاة.
ومن سيصليها بالأفعال الصحيحة والاخلاص بالتأكيد سيعطيه الله الاجر الأكبر فسيعطيه اجر اداء الصلاة وايضا اجر افعاله الصحيحة .
اما غير المسلمين فأشار الله عز وجل بقوله ( بما كانوا يفعلون } انه سيحاسبهم بعدله فكل فعل سيحاسبهم عليه.
أي انه من باب قول الرسول ﷺ ” إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كنفه وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ : سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ : { هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } “. رواه البخاري
6- قال ابن الملقن الباء في قوله ( بالنية ) يحتمل أن تكون “باء” السبب، ويحتمل أن تكون “باء” المصاحبة، وينبني على ذلك: أن النية جزء من العبادة أم شرط؟ والأصح الأول .
وقال ابن دقيق العيد (ت٧٠٢): فالذين اشترطوا النية، قدروا: ” صحة الأعمال بالنيات ” أو ما يقاربه.
والذين لم يشترطوها: قدروه ” كمال الأعمال بالنيات ” أو ما يقاربه.
وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى؛ لأن ما كان ألزم للشيء: كان أقرب إلى خطوره بالبال عند إطلاق اللفظ. فكان الحمل عليه أولى.أ،هـ
قال ابو كندا : ارى ان الباء هنا سببيه وتقدير الكلام ، إنما الاعمال بقصد ،
وحتى يفهم الفرق خذوا هذا المثال
فلو رأيت رجل عاقل يطوف بقبر ، فإذا انكرت عليه قال لك : نيتي ليست الطواف والرسول ﷺ يقول (انما الاعمال بالنية) ونيتي ليست العبادة ولا التعظيم ، انما طفت فقط للدوران ولأرى الذين يطوفون .
عندها سنجيبه ونقول الرسول ﷺ قال ( إنما الاعمال بالنية ) ولم يقل انما العبادة بالنية، فأي عمل سواء كنت تعتبرها عبادة او غير عبادة فسببها النية، فبمجرد طوافك يدل على تعظيمك للقبر وحلفك بغير الله يدل ان نيتك تعظم الذي حلفت به،
إذا يقصد بهذه الجملة ان لا عمل لعاقل الا بقصد، فعملك يدل على القصد الذي في قلبك ، إلا ان كنت مجنون او ناسي او مخطئ .
7- قوله ( بالنية )
قال الخطابي(ت 388) : ومعنى النية: قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له.
وقيل: هي عزيمة القلب. وقال بعض أهل اللغة: أصل النية الطلب.أ،هـ
قال ابو كندا : رأيت كل الشراح قالوا ذلك فجمعها ابن الملقن (ت٨٠٤) وقال : أصلها: القصد، وهو عزم القلب.
وفي الشرع: القصد المقترن بالفعل.
ومحلها القلب عند الجمهور،أ،هـ
8- قال ابو كندا وقوله ( بالنية) يدل على ان للعمل نية واحدةقد تتغير او تتبدل لكنها لا تنقسم للعمل الواحد نيتان
واقصد بذلك انه لا يوجد ، (حج وبيع سبح) فإما حج وإما بيع سبح ، إلا ان فصلت العمل ، فبعت السبح قبل اعمال الحج – فعندما نويت الحج حججت وأوقفت البيع ، وعندما احللت من الحج رجعت لبيع السبح فهنا تبدلت النية وكان كل عمل له نية- .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
وأما من يقول سأطلب انتداب من العمل حتى احج ، فكيف اعرف نيتي ، اقول لك ، لو قال لك العمل سنرسلك لمكة فإن حججت لن نعطيك بدل الانتداب وان لم تحج واهتممت بالحجاج سنعطيك بدل الانتداب ، هنا سيتبين مقصدك ، إن حججت فانت قصد الحج وان لم تحج فأنت قصدت الانتداب.
9- قال ابو كندا وبعد هذا التفصيل يتبين لنا الى ان معنى قوله ( إنما الاعمال بالنية) كجملة مستقلة عن مابعدها : هو تأكيد على قاعدة عامة أن الاعمال التي تصدر من البشر أساسها القصد ، فلا اعمال ظاهرية من دون قصد للقلب إلا ان صدرت من مجنون او مخطئ او ناسي
ولو ذكر الشراح هذا المعنى المستقل، لا اراحوا المسلمين من الوسوسة ، هل نووا العمل عندما عملوه او لا؟!!!
فهذه الجملة تقطع الشك بأن اي عملا لا يصدر الا بنية سواءا تذكرت ذلك او نسيته.
قد يقول لي قائل لماذا قلت انها جملة مستقلة؟!!
الجواب : هذه الجملة اعطت معنى عام اقرت فيه ان النية اساس العمل ، وهذا المعنى فهم من الجملة فلا تحتاج الجملة الى جملة اخرى حتى توضح هذا المعنى.
فإن قال لي وما الفائدة من هذه الجملة فكل الناس يعرفون ذلك !!!
اقول لك لا اسلم بهذا القول لأني وجدت اناس يعملون اعملا يشركون بها مع الله اناس يعظمونهم بالحلف او الدعاء او الطوف فإن نهيتهم عن ذلك يقولون نيتنا سليمة ولا نقصد بها الاشراك او التعظيم ولا نقصد ان هؤلاء البشر يقدرون على كل شي ، انما هي عادة .
ولكن ان سلمت لك بذلك ان الناس كلهم يعرفون ان اساس العمل هو النية ، اقول لك فلماذا قال الله عز وجل {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ(32))
وهذا المعنى يعرفه المسلمين بل يؤمنون به ، وحتى الكفار المخاطبون به في ذاك الزمان يعرفون ان الله هو الذي خلق السموات والارض والدليل قول الله عز وجل ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
فلو قولنا قولك فما فائدة هذا المعنى الذي ذكره الله فهم يعرفونه.
قال ابو كندا : الذي تجهله من فائدة هذا المعنى المعروف ،
أن من ذكاء العرب في الخطاب انها تبدأ بأمر يتفق عليه المتحدث والمخاطب لتقر المخاطب على ذلك في نفسه ثم تبني عليه ، المعنى الذي تريده من الخطاب.
فالخطاب الذي بعده لا يغير المفهوم الاول بل يزيده.
10- وقوله ( وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى ) هذه الجملة أيضا مستقله ، والدليل على ذلك بدايتها ب(إنما) ، وهي تأكيد على ان النية فعل بذاتها لها اجر مستقل عن اجر العمل .
ويؤكد ذلك قول الرسول ﷺ ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك ). البخاري
وابتغاء وجه الله هو قصدٌ، نوى به الله فأخذ عليه الاجر مع ان الإنفاق ليس عبادة، إنما هو عمل ملزم به المسلم والكافر ان يقوم به لزوجته .
واللام في ( لامرئ ) دليل على أن الرسول ﷺ تحدث عن الاجر او الوزر ، قال الله عز وجل ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ) وقوله ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )
ولو اراد بهذه الجملة المستقله ان العمل الصالح لا يقبل الا بالنية لقال ليس لمرئ الا ما نوى من الاعمال ، او لقال لا اجر الا لمن نوى.
قال ابو كندا : فإذا اضفنا لها الجملة التي قبلها وهي ( إنما الاعمال بالنية )وربطناها بها ، خرج لنا زيادة معنى .
فيكون المعنى ، إن اعمال المرئ بمقاصده ، وعلى مقاصده يكون الاجر والوزر،
ولو توقف الرسول ﷺ هنا – فلم يضيف جملة ( فمن كانت هجرته …) لكتفينا بمعنى : أن اساس الاجر والوزر على المقصد الذي عمل له العمل ، وهذا المعنى صحيح وكامل ، بل هذا المعنى اكده الله عز وجل في كتابه فقال عز وجل ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16) .
وقال عز وجل {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)
وينبه على هذا المعنى قول الرَسُول ﷺ ” إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ : جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ : كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ “. مسلم
كلهم قصدوا بأعمالهم غير الله فأعطاهم الله عز وجل مانووه، مع انها اعمال وعبادات صالحة.
قال فضل الله التُّورِبِشْتِي (ت٦٦١) في كتابه – الميسر في شرح مصابيح السنة – : قوله (وإنما لامرئ ما نوى) يشير إلى أن حسن القبول منوط بحسن النية، ومقادير المثوبات على مراتب النيات في قوة العزيمة والتخلص عن شوائب الرياء، والتجرد عن دسائس الهوى.أ،هـ
قال ابن دقيق العيد(ت ٧٠٢) : يقتضي أن من نوى شيئا يحصل له، وكل ما لم ينوه لم يحصل له فيدخل تحت ذلك ما لا ينحصر من المسائل، ومن هذا عظموا هذا الحديث.أ،هـ
قال ابن رجب (ت ٧٩٥) ويكون قوله بعد ذلك: «وإنما لكل امرئ ما نوى» إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة، فعمله صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدة، فعمله فاسد، فعليه وزره.
قال ابو كندا: ويشير هذا الربط بين الجملتين ( انما الاعمال بالنية ) و( انما لمرئ مانوى) إن العمل المقصود به هو العمل المرتبط بالنية، وهو العبادة.
وإن كنت هذه الاشارة لا تتضح اكثر الا بالجملة التي بعدها.
فالجملة التي بعدها هي قوله ﷺ ( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )
وهذه الجملة وضحت بلا شك ان المقصود بالأعمال هي العبادة.
٩-قال ابو كندا: بين الرسول ﷺ ماهية هذه الأعمال، بذكر نوع منها وهو الهجرة، فقال ﷺ ( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )
وهذا المثال وضح لنا ما مقصده من الاعمال في قوله ( انما الاعمال بالنية) والهجرة هي نوع من العبادات ، اذا مقصد الرسول ﷺ بالاعمال هي العبادات.
فالهجرة ياسادة هي عبادة نسخت بعد الفتح عندما قال الرسول ﷺ ( لا هجرة بعد الفتح)
والدليل انها عبادة ان الرسول كان يدعوا اليه كما في حديث مسلم ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ” اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، …) الى ان قال ( ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ) وهذا الحديث فيه دليل على حث الرسول ﷺ على الهجرة ،
وفيه أيضا بيان ان الذي لا يهاجر ليس له نصيب من الغنيمة وهذا يشعرك بأنها عبادة ففيها ولاء وقرب .
كما قال الله عز وجل ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا )
ومن الأدلة أيضا عن العلاء بن الحضرمي يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ : ” لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ بَعْدَ الصدر بِمَكَّةَ “. كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا. رواه مسلم
وحديث سعد بن الوقاص كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي،…) الى قول الرسول ﷺ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ على أعقابهم، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ “. يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. رواه البخاري
وهذا الحديث يدل على عظمة هذه العبادة فالمهاجر مطالب بتبعاتها ولا تتم الا بموته .
ومن عظم هذه العبادة قول الرسول ﷺ لعمرو بن العاص ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟) رواه مسلم.
ولو دققت فيها كثيرا لرأيت انها اشبه بالحج.
ومن عظمة هذه العبادة كان الناس يتحدثون عنها كثيرا .
حتى أن المهاجر ممنوع من سؤال الرسول ﷺ عَنْ نواس بن سمعان قَالَ : أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً، مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ، قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حاك فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ “. اخرجه مسلم
وهذا ايضا يدل على ان الهجرة لا تنعقد الا بنية.
كل هذه الادلة تجعلك تتيقن انها عبادة .
واسمحولي اذكر امر يخطئ فيه الناس وهو استدلالهم بأن الاثم ماحاك في نفسك، ويستدلون بهذا الحديث.
اقول لمن يستدل بهذا الحديث، إن مسلم في صحيحه بين ان هذا الامر في اول الاسلام قبل ما تنسخ الهجرة ، اما بعد ماتم الله عز وجل نعمته علينا بكمال الدين نسخ هذا الحديث، بالاحكام كاملة.
وفي حديث النواس بن سمعان دليل ان من يعمل عمل الهجرة ولم يعقد الهجرة ليس بآثم.
قال ابو كندا : اختيار الرسول ﷺ عبادة الهجرة في المثال ، دليل أن العبادة لا تقبل الا بنية، والدليل ( فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )، اي ان الله عز وجل لن يقبلها.
ولو اختار الرسول ﷺ نوع اخر من الاعمال الصالحة وليس من العبادة ، كالبر بالوالدين او حسن الخلق او اماطة الاذى، فقال : فمن احسن خلقه لله ولرسوله فهو لله ولرسوله ومن احسن خلقه لدنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فحسن خلقه الى ما احسن اليه.
لقلنا ان الرسول ﷺ يقصد بالاعمال هي الاعمال الصالحة فلا تقبل الا بنية، ويدخل فيها العبادة ، فكل عمل صالح لا يكون لله كالاحسان للوالدين وحسن الخلق واماطة الاذى ، لا يعطيك اجرها الا اذا نويتها ، فالنية شرط لقبول الأعمال الصالحة، وهذا لم يقل به الرسول ﷺ وانما قصد بالاعمال العبادة فقط .
وحتى تستوعب ما اقول لا بد ان اذكر لكم لمحة قصيرة عن ماهية الاعمال في الدنيا .
فياسادة ياكرام ، الأعمال في هذه الدنيا ثلاثة أقسام
١- اعمال يحبها الله ( الاعمال الصالحة)
وهي: اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنه.
والاعمال الصالحة نوعان:
- أ) العبادة ، قال الله عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)، وهذا النوع من الاعمال لابد فيه من النية وهي شرط لقبول العمل.
- ب) اعمار الارض، قال الله عز وجل ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) وقال الله عز وجل (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ، وهذا العمل لا يشترط فيه النية فإن دخلت النية فيه لوجه الله زاد الاجر ، والدليل قول الله عز وجل (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، وقال عز وجل ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215).
وجمع الله عز وجل بين اساس العبادة واساس الاعمار في اية واحده فقال عز وجل ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) فكلمة قضى تبين ان هذين الأمران لم يغيرهما الله عز وجل منذ أن انزل ادم على الارض.
واستمر الرسل والانبياء يأمرون الناس بها.
٢- اعمال لا يحبها الله كالشرك والبدع ودمار الارض. في تركها اجر وفي عملها وزر
٣- اعمال طبيعية كالنوم والاكل، ليس فيها اجر ولا وزر.
فإن قلت الم تقرأ مارواه البخاري عن معاذ وابي موسى الذي فيه ( فَقَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى : كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : قَائِمًا وَقَاعِدًا، وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي، كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ).
اقول لك نعم قرأته والعبادة هي الاحتساب وليست النوم
فكيف بعبادة تعملها وانت مرفوع عنك القلم.
ومن شروط العبادة العقل.
ارجو اني استطعت ان اوضح لك ان المقصود بالأعمال في هذا الحديث هي اعمال العبادة .
١٠- قد يقول قائل إن تعريف الأعمال الصالحة التي ذكرت ، هو تعريف ابن تيمية للعبادة.
سأجيبه : أحسنت ، نعم هو،
وانت تعرف أيضا ان التعريف يشترط ان يكون جامع مانع، وهذا التعريف للعبادة جامع كل العبادات وغير العبادات ولا يمنع غير العبادات
فلا يصلح لتعريف العبادة بل يصلح لتعريف الأعمال الصالحة.
وقد يقول قائل فما تعريف العبادة ؟
اقول له بالنسبة لي ارى ان العبادة يصعب تعريفها ، وقد يأتي غيري ويستطيع ان يعرفها .
وعذري في صعوبة تعريفها ، أن الله عز وجل خلق البشر بأجناس وطبائع ونفسيات وحاجات مختلفة ، فمن عدله سبحانه وتعالى ان نوع العبادة حتى يستطيع كل امرئ منهم ان يعبد الله وهو في غير كلفة
وجمعهم كلهم بخمس عبادات يستطيعون كلهم ان يؤدوها، وهي مع ذلك متنوعه وقد قيدت بقيود وحدود حتى يستطيع كل البشر أن يؤدوها، من غير كلفة.
فمن يريد ان يشكر الله في العبادات الأخرى التي اساسها هذه الخمس فالله شكور عليم.
فكل عبادة تحتاج الى تعريف.
وإن حاولت ان تأتي بتعريف أظن انك تستطيع ان تذكر المنع لكن لن تستطيع الجمع كفعل الرسول ﷺ عندما اجاب على الرجل الذي سأله فقال له مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ فَقَالَ: «لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلاَ العِمَامَةَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ البُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ» اخرجه مسلم
وكما قال الله عز وجل ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ )
وسيسأل سائل هل هناك عمل نؤجر عليه من دون نية ؟!!!
نعم هناك اعمال نؤجر عليها من دون نية والدليل : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ : دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ : ” مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ “. البخاري.
ولم يشترط هنا النية
وخذ هذا ايضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ “. البخاري.
ولم يشترط هنا أيضا النية
وهاك هذا ايضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا ؛ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ “. مسلم
ولم يشترط النية بل فضل الانفاق على الأهل أكثر من الانفاق في سبيل الله ، وانت تعرف ان معنى سبيل الله هو الجهاد .
بل أن الرسول ﷺ بين ان العمل الصالح من الكافر يأخذ اجره في الدنيا عَنْ أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ “. قَالَ : ” وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا “. – قال ابو كندا اخرجه احمد وهو حجة وهذا الحديث اصح من حديث مسلم
ولأن بعض الناس لا يقتنع بقال الله وقال رسوله الا اذا قال به عالم ، سأذكر لكم قول ابن باز قال ( ان الله سبحانه لا يضيع عملَ عاملٍ، بل يأجره عليه إذا كان مؤمنًا، مع ما يدَّخر له في الآخرة، وإذا كان كافرًا جازاه به في الدنيا، يقول ﷺ: إنَّ الكافر إذا عمل حسنةً أُطْعِمَ بها طعمةً في الدنيا، مثل: الصَّدقة على أقاربه، ومثل: التيسير على معسرٍ، وما أشبه ذلك، أما المؤمن فيجمع الله له الأمرين: يأجره في الدنيا وفي الآخرة جميعًا ).
١١- وبعد هذا كله يتبين لنا نقاصد هذا الحديث وهي :
- النية اساس العمل
- ولك من الاجر مانويته
- الاحتساب عبادة بذاتها تدخل في كل الاعمال الصالحة والطبيعية
- النية لله شرط في العبادة فلا تقبل الا به.
فإذا فهمت هذه المقاصد زال الخلاف في المسائل
ومن هذه المسائل
أي عمل دنيوي لا يشترط في صحته النية ، مثل البيع والشراء والأجرة والزواج والطلاق والعتق والحلف كلها تتم بالقول وليس بالنية.
وان اي عبادة لاتقبل الا بنية مثل الصلاة والصيام والوضوء .
تم بحمد الله شرح الحديث وشرحه بسيط لكن كثرة اختلاف الشرح مما جعل العامة يستشهدون بهذا الحديث في كل شي ، اجبرني على التدقيق على كل كلمة حتى احل النزاع.
11- قال ابو كندا: بين الرسول ﷺ ماهية هذه الأعمال، بذكر نوع منها وهو الهجرة، فقال ﷺ ( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )
وهذا المثال وضح لنا ما مقصده من الاعمال في قوله ( انما الاعمال بالنية) والهجرة هي نوع من العبادات ، اذا مقصد الرسول ﷺ بالاعمال هي العبادات.
فالهجرة ياسادة هي عبادة نسخت بعد الفتح عندما قال الرسول ﷺ ( لا هجرة بعد الفتح)
والدليل انها عبادة ان الرسول كان يدعوا اليه كما في حديث مسلم ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ” اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، …) الى ان قال ( ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ) وهذا الحديث فيه دليل على حث الرسول ﷺ على الهجرة ،
وفيه أيضا بيان ان الذي لا يهاجر ليس له نصيب من الغنيمة وهذا يشعرك بأنها عبادة ففيها ولاء وقرب .
كما قال الله عز وجل ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا )
ومن الأدلة أيضا عن العلاء بن الحضرمي يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ : ” لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ بَعْدَ الصدر بِمَكَّةَ “. كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا. رواه مسلم
وحديث سعد بن الوقاص كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي،…) الى قول الرسول ﷺ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ على أعقابهم، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ “. يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. رواه البخاري
وهذا الحديث يدل على عظمة هذه العبادة فالمهاجر مطالب بتبعاتها ولا تتم الا بموته .
ومن عظم هذه العبادة قول الرسول ﷺ لعمرو بن العاص ( أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟) رواه مسلم.
ولو دققت فيها كثيرا لرأيت انها اشبه بالحج.
ومن عظمة هذه العبادة كان الناس يتحدثون عنها كثيرا .
حتى أن المهاجر ممنوع من سؤال الرسول ﷺ عَنْ نواس بن سمعان قَالَ : أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً، مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ، قَالَ : فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حاك فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ “. اخرجه مسلم
وهذا ايضا يدل على ان الهجرة لا تنعقد الا بنية.
كل هذه الادلة تجعلك تتيقن انها عبادة .
واسمحولي اذكر امر يخطئ فيه الناس وهو استدلالهم بأن الاثم ماحاك في نفسك، ويستدلون بهذا الحديث.
اقول لمن يستدل بهذا الحديث، إن مسلم في صحيحه بين ان هذا الامر في اول الاسلام قبل ما تنسخ الهجرة ، اما بعد ماتم الله عز وجل نعمته علينا بكمال الدين نسخ هذا الحديث، بالاحكام كاملة.
وفي حديث النواس بن سمعان دليل ان من يعمل عمل الهجرة ولم يعقد الهجرة ليس بآثم.
قال ابو كندا : اختيار الرسول ﷺ عبادة الهجرة في المثال ، دليل أن العبادة لا تقبل الا بنية، والدليل ( فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )، اي ان الله عز وجل لن يقبلها.
ولو اختار الرسول ﷺ نوع اخر من الاعمال الصالحة وليس من العبادة ، كالبر بالوالدين او حسن الخلق او اماطة الاذى، فقال : فمن احسن خلقه لله ولرسوله فهو لله ولرسوله ومن احسن خلقه لدنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فحسن خلقه الى ما احسن اليه.
لقلنا ان الرسول ﷺ يقصد بالاعمال هي الاعمال الصالحة فلا تقبل الا بنية، ويدخل فيها العبادة ، فكل عمل صالح لا يكون لله كالاحسان للوالدين وحسن الخلق واماطة الاذى ، لا يعطيك اجرها الا اذا نويتها ، فالنية شرط لقبول الأعمال الصالحة، وهذا لم يقل به الرسول ﷺ وانما قصد بالاعمال العبادة فقط .
وحتى تستوعب ما اقول لا بد ان اذكر لكم لمحة قصيرة عن ماهية الاعمال في الدنيا .
فياسادة ياكرام ، الأعمال في هذه الدنيا ثلاثة أقسام
١- اعمال يحبها الله ( الاعمال الصالحة)
وهي: اسم جامع لكل مايحبه الله ويرضاه من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنه.
والاعمال الصالحة نوعان:
- أ) العبادة ، قال الله عز وجل (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)، وهذا النوع من الاعمال لابد فيه من النية وهي شرط لقبول العمل.
- ب) اعمار الارض، او اعمال الخير ، قال الله عز وجل ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) وقال الله عز وجل (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ، وهذا العمل لا يشترط فيه النية فإن دخلت النية فيه لوجه الله زاد الاجر ، والدليل قول الله عز وجل (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾، وقال عز وجل ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215).
وجمع الله عز وجل بين اساس العبادة واساس الاعمار في اية واحده فقال عز وجل ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) فكلمة قضى تبين ان هذين الأمران لم يغيرهما الله عز وجل منذ أن انزل ادم على الارض.
واستمر الرسل والانبياء يأمرون الناس بها.
٢- اعمال لا يحبها الله كالشرك والبدع ودمار الارض. في تركها اجر وفي عملها وزر
٣- اعمال طبيعية كالنوم والاكل، ليس فيها اجر ولا وزر.
فإن قلت الم تقرأ مارواه البخاري عن معاذ وابي موسى الذي فيه ( فَقَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى : كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : قَائِمًا وَقَاعِدًا، وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا. قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي، كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ).
اقول لك نعم قرأته والعبادة هي الاحتساب وليست النوم
فكيف بعبادة تعملها وانت مرفوع عنك القلم.
ومن شروط العبادة العقل.
واليك حديث يثبت ان الاكور الطبيعية ليست طاعة ، عَنِ ابن عباس قَالَ : بَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ ؛ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا : أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : ” مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ “. البخاري
وهنا الرسول ﷺ لم يقره في النذر الا على الطاعة فقط اما الاعمال الطبيعية لم يقرها عليها .
وقد قال الرسول ﷺ ” مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ “. البخاري
ارجو اني استطعت ان اوضح لك ان المقصود بالأعمال في هذا الحديث هي اعمال العبادة .
12- قد يقول قائل إن تعريف الأعمال الصالحة التي ذكرت ، هو تعريف ابن تيمية للعبادة.
سأجيبه : أحسنت ، نعم هو،
وانت تعرف أيضا ان التعريف يشترط ان يكون جامع مانع، وهذا التعريف للعبادة جامع كل العبادات وغير العبادات ولا يمنع غير العبادات
فلا يصلح لتعريف العبادة بل يصلح لتعريف الأعمال الصالحة.
13- وقد يقول قائل فما تعريف العبادة ؟
اقول له بالنسبة لي ارى ان العبادة يصعب تعريفها ، وقد يأتي غيري ويستطيع ان يعرفها .
وعذري في صعوبة تعريفها ، أن الله عز وجل خلق البشر بأجناس وطبائع ونفسيات وحاجات مختلفة ، فمن عدله سبحانه وتعالى ان نوع العبادة حتى يستطيع كل امرئ منهم ان يعبد الله وهو في غير كلفة
وجمعهم كلهم بخمس عبادات يستطيعون كلهم ان يؤدوها، وهي مع ذلك متنوعه وقد قيدت بقيود وحدود حتى يستطيع كل البشر أن يؤدوها، من غير كلفة.
فمن يريد ان يشكر الله في العبادات الأخرى التي اساسها هذه الخمس فالله شكور عليم.
فكل عبادة تحتاج الى تعريف.
وإن حاولت ان تأتي بتعريف أظن انك تستطيع ان تذكر المنع لكن لن تستطيع الجمع كفعل الرسول ﷺ عندما اجاب على الرجل الذي سأله فقال له مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ فَقَالَ: «لاَ يَلْبَسُ القَمِيصَ، وَلاَ العِمَامَةَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ البُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ» اخرجه مسلم
وكما قال الله عز وجل ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ )
14- وسيسأل سائل هل هناك عمل نؤجر عليه من دون نية ؟!!!
نعم هناك اعمال نؤجر عليها من دون نية والدليل : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ : دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ : ” مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ “. البخاري.
ولم يشترط هنا النية
وخذ هذا ايضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ “. البخاري.
ولم يشترط هنا أيضا النية
وهاك هذا ايضا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ” دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا ؛ الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ “. مسلم
ولم يشترط النية بل فضل الانفاق على الأهل أكثر من الانفاق في سبيل الله ، وانت تعرف ان معنى سبيل الله هو الجهاد .
بل أن الرسول ﷺ بين ان العمل الصالح من الكافر يأخذ اجره في الدنيا عَنْ أنس بن مالك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ “. قَالَ : ” وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا “. – قال ابو كندا اخرجه احمد وهو حجة وهذا الحديث اصح من حديث مسلم
ولأن بعض الناس لا يقتنع بقال الله وقال رسوله الا اذا قال به عالم ، سأذكر لكم قول ابن باز قال ( ان الله سبحانه لا يضيع عملَ عاملٍ، بل يأجره عليه إذا كان مؤمنًا، مع ما يدَّخر له في الآخرة، وإذا كان كافرًا جازاه به في الدنيا، يقول ﷺ: إنَّ الكافر إذا عمل حسنةً أُطْعِمَ بها طعمةً في الدنيا، مثل: الصَّدقة على أقاربه، ومثل: التيسير على معسرٍ، وما أشبه ذلك، أما المؤمن فيجمع الله له الأمرين: يأجره في الدنيا وفي الآخرة جميعًا ).
15- وبعد هذا كله يتبين لنا مقاصد هذا الحديث وهي :
- النية اساس العمل
- ولك من الاجر مانويته
- الاحتساب عبادة بذاتها تدخل في كل الاعمال الصالحة والطبيعية
- النية لله شرط في العبادة فلا تقبل الا به.
- افعال الترك لابد لها من نية ، لأنها افعال القلب
فإذا فهمت هذه المقاصد زال الخلاف في المسائل
ومن هذه المسائل
أي عمل دنيوي لا يشترط في صحته النية ، مثل البيع والشراء والأجرة والزواج والطلاق والعتق والحلف كلها تتم بالقول وليس بالنية.
وان اي عبادة لاتقبل الا بنية مثل الصلاة والصيام والوضوء .
تم بحمد الله شرح الحديث وشرحه بسيط لكن كثرة اختلاف الشرح مما جعل العامة يستشهدون بهذا الحديث في كل شي ، اجبرني على التدقيق على كل كلمة حتى احل النزاع.