بعث الله رسوله ﷺ في زمن انتشرت فيه الاصنام والخمور والغناء والزنا والقتل والظلم والكهنة وواد البنات والساحرات والعاهرات، أي ان الله بعثه في زمن اظلم من زمننا هذا وافسد وافسق، ومع ذلك بعثه ليدعوا الناس الى عبادته بهذا القران المعجزة، {{الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}}
لم يدعهم بالأحلام ولا القصائد والأشعار ، لم يبحث عن البديل بالحداء والشيلات ،
ولم ينزل الى مستواهم الفاسد والفاسق ليلاطفهم في دينه {{ لكم دينكم ولي دين }} بل ارسل لهم الحبل المتين كي يرفعهم به الى الله عز وجل «ألا وإني تاركٌ فيكم ثقلَين : أحدُهما كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ . هو حبلُ اللهِ . من اتبعه كان على الهُدى . ومن تركه كان على ضلالةٍ » مسلم، « كتابُ اللهِ هو حبلُ اللهِ الممدودَ من السماءِ إلى الأرضِ » صحيح الجامع،
فالدعوه بالنزول الى مستوى الناس ليرفعهم وسيلة خاطئة في رأيي، فكم من شخص نزل اليهم ليرفعهم فدحدر معهم واصبح ينافسهم في حياتهم وأموالهم وملذاتهم،
واذا قرأتم ياكرام كتاب (الطبقات الكبرى ) لابن سعد سترون ان الدعوة بقال الله وقال رسوله هي انجح وسيلة لدعوة البشر الى عبادة رب البشر ، وهي الوسيلة الناجحة لاصلاح البشر
قال الرسول عليه الصلاة والسلام «ما من الأنبياء من نبي إلا قد اعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة » مسلم
وقال عليه الصلاة والسلام « والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار » مسلم، حديثان لم اسمعهما من الدعاة ولا مناهج الجامعة ولم اقرأه في كتاب رياض الصالحين.
كتاب الطبقات الكبرى لـ محمد بن سعد بن منيع ، قال عنه الذهبي ” الحافظ، العلامة، الحجة، أبو عبد الله البغدادي، كاتب الواقدي ”
وقال ايضا ” وكان من أوعية العلم، ومن نظر في (الطبقات) ، خضع لعلمه ”
“خضع لعلمه”!!!! كلمة قوية لا تخرج من الذهبي -وهو الذهبي – إن لم يكن متيقنا منها .
كتاب – الطبقات الكبرى – ياكرام يصف زمن قبل البعثة وبعدها، وصف دقيق بمعنى كلمة دقيق،
فهو يصف الحياة في ذاك الزمان بعاداته واعرافه ومصطلحاته ويصف بيوته ومزارعه وانعامه ويذكر الناس بأسمائهم وصفاتهم وطبائعهم -من قصصهم -وتأديبهم لأبنائهم، ويذكر اسماء امهاتهم وبناتهم واخواتهم وابنائهم ومواليهم وما اشتهروا به وزوجاتهم ومطلقاتهم، وغيرتهم ، وخصام الزوجان ،وكيد الضرائر فيما بينهن،
فمن دقة وصفه تشعر انك معهم وتحس بإحساسهم، وكأنك انتقلت الى زمانهم،
المجلدان الاولان كانا عن سيرة الرسول ﷺ والله وبالله وتالله مارأيت اروع منهما في السيرة، فكيف تجد اروع منهما والمؤلف مابين ولادته ووفات الرسول ﷺ الا 158سنة، كيف تجد اروع من هذه السيرة والمؤلف كان يلازم عالم السيرة في كل العصور وهو الواقدي ومن كثرة ملازمته للواقدي لم يكن يعرف الا ( بكاتب الواقدي) ، ولا اظنك تجد افضل من هذه السيرة لأن المؤلف محمد بن سعد يعتبر من المحدثين الثقات فهو يتحرى المقبول في ذكر سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام،
عندما تقرأ في الطبقات وترى الرسول ﷺ عندما بُعث، وحياته البسيطة، وما عاناه من من صناديد قريش، سيصيبك القهر من هؤلاء الكفار ، فكيف بمن عاش معهم، ومع ذلك تعامل معهم عليه الصلاة والسلام بالصبر والدعوة بكلام الله، لم ينقلب على رؤسائهم ولا شيوخهم، ولم يغدر بهم ويغتالهم،
لم يكن في تفكيره البحث عن السلطه والرئاسه والمال ليتغلب عليهم وينشر الدعوه،
عرضوا عليه المال والسلطة والجاة والنساء ، ليذوق حلاوتها الدنيوية، فينزل الى مستواهم او على الاقل يسكت عنهم، -وهذه السياسة ناجحة في اسكات اهل الحق الى هذا اليوم- ، فرفض عليه الصلاة والسلام هذه العروض وبحث عن بيئة اخرى لعلهم يستجيبوا لدعوته ومن ثم يعود اليهم ويدعوهم او يدعوا من خرج من اصلابهم،
تحرك رائد الاعلام في ذاك الوقت (الوليد) -بن المغيرة – وحرك امواله وسلطته ليسكت صوت الحق، {{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }}
فأنزل الله على رسول ﷺ آيات هي أصل من أصول محاربة الإعلام الفاسد مها اختلفت وسائله ومهما اختلف الزمان ، بيَّن له أنه مهما سطر الإعلاميون من اقلام وصحف لا تلتفت اليهم ولا تسمع لهم ولا تطعهم، استمر -يا محمد- في دعوتهم بأخلاقك الحميدة ولاتدنسها باستخدام وسائلهم الدنيئة من اختلاق القصص والأكاذيب من اجل الدعوة والحلف المهين على ذلك والهمز والمشي بالنميمة ونشر الشائعات واستخدام المال والنساء، وتكثير السواد بالابناء والاتباع.
أَمره فقط بالصبر والدعوه بالاخلاق الحميدة وعدم النزول الى مستواهم او الرد بالمثل،
اصبر {{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ *بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}}
عليك الدعوة والصبر وعلى الله عزوجل الثواب والعقاب وارضى بحكم الله فهو العدل إن شاء عاقبهم في الدنيا كأصحاب الجنة عندما اقسموا ليصرمنها مصبحين، وإن شاء عاقبهم في الاخرة ، {{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }}
ثم حذره مرة اخرى من ان يحيد عن الصبر فقال {{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ }}
نعود الى كتاب الطبقات ، اذا قرأت فيه تعامل الرسول ﷺ مع اجناس البشر وطبقاتهم وطبائعهم واطماعهم ودياناتهم،ستنجح في ادارة البشر ودعوتهم والتعامل معهم وفق الشريعة السمحة ، فالاطباع والاطماع والاديان والطبقات لم تتغير من ذاك الزمان .
من يقرأ الطبقات سيجد ان الرسول ﷺ كان همه الدعوة الى الله ولم يكن همه البحث عن معايب الناس ونشرها للتحذير منها والرد عليها، مع ان الله عز وجل اخبره باسمائهم، بل لما حضرت الوفاة للمنافق عبدالله بن أُبي ارسل ﷺ قميصه ليكفن به واراد الصلاة عليه، فلم يتشمت به ولم يفرح بهالكه بل استغفر له،
من يقرأ الطبقات سيجد أن الرسول ﷺ لم يكن يفرح بإقامة الحدود ، كان يدرؤها بالشبهات، فإن اقام الحد على شخص ما، وسمع من يشتمه يشنع عليهم ويدافع عنه بقوله انه يحب الله ورسوله، وإن اقام عليه الحد.
حياة مليئة بالمنغصات كحياتنا هذه استطاع فيها الرسول ﷺ ان يصلحها بشريعة الله عزوجل.
واما الاجزاء الاخرى عدا الاخير، فيذكر فيه ابن سعد حال الصحابة ومن بعدهم على طبقاتهم الى عهد المؤلف -اي قبل عام 230هـ –
وكأنه يضع لكل طبقة كتاب منفصل عن الاخر، فإذا كان الرجل مر على الشام والبصرة ، ستجد ذكره في طبقات اهل البصرة وطبقات اهل الشام مع اعادة بعض القصص ولا يكتفي بقوله ذكرته سابقا،
ولولا اني اطلت عليكم لذكرت لكم كيف كان يذكر الاحداث بين الصحابة رضي الله عنهم وارضاهم بتحري وتأدب وعدم تعصب .
أما الجزء الثامن والأخير فهو يتحدث عن النساء ، وما أدراك مالنساء مجتمع غريب عجيب، لا أقوى على وصفه يكفي أن ابن سعد وصفه.
في الأخير اتمنى من العلماء تدريس هذا الكتاب في المساجد والجامعات ومناهج الطلاب .
{{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِه ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ }}
كتبه ماجد بن محمد العريفي
دبي
14-4-2017
17-7-1438
25-7-1395