ديوان “اغاني الحياة” لأبي القاسم الشابي المتوفي عام 1909م هذا الكتاب كان من أعز الاصدقاء لدي، الى أن فرقنا احد الشعراء عفا الله عنه، ففي فترة من الفترات، كان هذا الديوان ينام بجانب سريري، فإن سافرت وجدته في حقيبة السفر، لا اتذكر كيف تعرفت عليه، فكل اصدقائي لا يحبون الشعرا الا شعر أبا العتاهية والزهد، فلذلك أظن اني سمعت عنه من جريدة او مجلة – فهذه مصادر التلقي الخارجة من بيئة اصدقائي في ذاك الزمن- .
الحاصل شريت الكتاب على استحياء من صاحب المكتبة، فالكتاب عنوانه “أغاني الحياة ” والعياذ بالله.
عندما قرأت الديوان احسست بقلبي يتغنى طربا من عزف الحروف وايقاع القوافي ، فقلت ماكذب والله الشاعر في تسميته بـ”أغاني الحياة”، فأعدت قراءته مرة اخرى ، شجعني هذا الديوان على قراءة دواوين الشعر.
كنت اقرأ دوواين الشعراء فإذا رأيت من نفسي نفورا عنها جعلت أبو القاسم الشابي ينفث عليها بترانيمة حتى تعود الى الشعر وهي تغني.
اذكر أني قرأت بعده لـ(عنترة) و(الشنفرى) و(السليك بن سليكة ) ثم عدت اليه ثم قرأت لـ(ديك الجن ) ولم اكمل الديوان ثم ارسلت نفسي الي “اغاني الحياة”.
ثم قرأت ديوان (دعبل الخزاعي)،
وتوقفت في الثلث الاول من ديوان (ابن الرومي )مقررا عدم اكماله والرجوع الى صديقي يغني لي.
ثم قرأت ديوان (صفي الدين الحلي)،
ثم قرأت المعلقات وشرحها، ثم اشتقت له وتغنينا سويا،
ثم قرأت ديوان (الفرزدق) و(جرير)، وتعجبت من جمال شعرهما،
ثم ديوان (البحتري)، ثم قرأت ديوان (عمر بن ابي ربيعة ) واستمتعت كثيرا بقصصه في شعره،
ثم قرأت ديوان (ابن زيدون) فذكرني بعزف ابوالقاسم الشابي، فعدت الى “أغاني الحياة” وقد اكتسب قلبي ملكة في معرفة ايقاع القوافي وعزف حروفها، وكل هذه الدواوين اشتريتها إما من دار صادر او من دار الكتاب العربي .
ثم قرأت كتاب لا اذكر اسمه ولكنه يتحدث عن المتنبي وينتقي ابياته، كانت مقدمة الكتاب اول شرخ حدث بيني وبين صديقي ابي القاسم الشابي،
وشهادة لله لم يذكر ابا القاسم الشابي ولم يذكر ديوانه بجرح او تعديل، اكتفى بذكر محاسن ابيات المتنبي وسلاستها وحِكمها مما جعلها تندرج على ألسنة العامة، فكان هذا الكتاب اخر عهدي بأبي القاسم الشابي، وكان هذا الحدث بعد تخرجي من الجامعة بثلاثة سنين، سامحك الله ايها المتنبي.
نعود الى ديوان ابي القسم الشابي ، الديوان يتألف من 180صفحة تقريبا ، اذا قرأت الديوان ستتعجب من الشاعر فلدية ملكة في التخاطب مع الطبيعة، وكأنها تكلمه ويكلمها وكأنه يحس بما تشعر يسمع بكاها وضحكها ويرى سعادتها وحزنها، هل هي ملكة أم سحر أم خيال لا أعلم إلا أن في الابيات اخطاء عقدية ومخاطبة الله بما لايليق بجلاله من الاستخفاف والاستهزاء ، وأعلم أن الساحر لابد أن يقول هذا الكلام حتى يرضي عفريته ،
أما أبيات قصائده فهي لطيفة خفيفة على اللسان وعلى الأذان ولكن لها تأثير قوي على القلب، فأبياته في الحب تذيب القلب ، وهاك مثال:
“عـذبـة أنـت كـالـطـفـولـة
كـالأحـلام كـالـلـحـن كـالـصـبـاح الـجـديـد
كـالـسـمـاء الـضـحـوك
كـالـلـيـلـة الـقـمـراء كـالـورد
كـأبـتـسـام الـولـيـد
يـالـهـا مـن طـهـارة تـبـعـث الـتـقـديـس
فـى مـهـجـة الـشـقـى الـعـنـيـد
يـالـهـا من رقـة تـكـاد يـرق الـورد مـنـهـا
فـى الـصـخـرة الـجـلـمـود
أنـت … مـا أنـت ؟؟
أنـت رسـم جـمـيـل عـبـقـرى
مـن فـن هذا الـوجـود”
لحن وحروف وكلمات وترانيم يذوب منها اللسان قبل القلب،
قرأت (للبردوني) و (نزار) و(فاروق جويدة ) فلم اجد بيتين توازي عذوبة هذه الابيات.
واما ابياته اذا ثار تجعل القلب شرار يثور على شي ولا شيء ،
وخذ هذه بعد أن تتعوذ فشعره كالسحر.
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ
فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ
تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ
مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ
وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ
وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ
رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ
وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لايحب صُعُودَ الجِبَـالِ
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ
وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر
وَأَطْرَقْتُ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ
وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ – لَمَّا سَأَلْتُ :
” أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟”
“أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ
وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ
وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ
وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ
وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم
لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ
مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!”
الى أن قال
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ
لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ
فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ. أ.هـ
قرأت كتاب الجواهري في ديوانه المسمى الجواهري في العيون من اشعاره يتألف من800صفحة او اكثر لم اجد له قصيدة كاملة تفعل بالقلب مثل ماتفعل هذه القصيدة ، مع ان الجواهري كان معارضا ومناضلا بل وتأذى من المعارضة والثورة.
تضخم قلب ابي القاسم الشابي من هول قصائده فمات وعمره 25سنة ،في عام( 1934م)، فانتبهوا على قلوبكم من نفثاته في قصائده الساحرة
كتبه ماجد بن محمد العريفي
24-3-2017
26-6-1438