باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلاَمِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: ١٤]. فَإِذَا كَانَ عَلَى الحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ١٩]. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: ٨٥].

٢٧ – عَنْ سَعْدٍ – رضي الله عنه -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: “أَوْ مُسْلِمًا”. فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: “أَوْ مُسْلِمًا”. ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ثُمَّ قَالَ: “يَا سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ”. وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِىِّ، عَنِ الزُّهْرِىِّ. 
*************

١- هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الزكاة .
٢- قوله: (أَعْطَى رَهْطًا)، أي جماعة، وأصله الجماعة دون العشرة، قَالَ ابن التياني: قَالَ أبو زيد: الرهْطُ ما دون العشرة من الرجال.
٣- قوله: (هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ). أي: أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي.
٤- قوله: (مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) أي: (أيُّ سبب لِعُدُولك عن فلان) .
٥- قوله: (فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُومِنًا) قال أبو العباس القرطبي : الرواية بضم الهمزة بمعنى: أظنه، وهو منه حلف عَلَى ما ظنه، ولم ينكر عليه، فهو دليل عَلَى جواز الحلف عَلَى الظن، وهو يمين اللغو، وهو قول مالك والجمهور .
٦- قوله: (“أَوْ مُسْلِمًا”)، هو بإسكان الواو، وهي (أو) التي للتقسيم والتنويع، أو للشك والتشريك، ومن فتحها أخطأ وأحال المعنى، ومعنى الإسكان: أن لفظة الإسلام أولى أن نقولها؛ لأنها معلومة بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله، وليس فيه إنكار كونه مؤمنًا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان.
٧- وقد غلط من توهم كونه حكم بأنه غير مؤمن، بل في الحديث إشارة إلى إيمانه، وهو قوله: “أُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ”
٨- قوله: (فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي)، قَالَ أهل اللغة: يقال: عاد لكذا، أي: رجع إليه بعد ما كان أعرض عنه، والمقالة والمقال والقول والقولة بمعنًى.
٩- قوله: (“خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ”)، ومعنى كَبَّه: ألقاه، ويقال: كَبْكَبَهُ بمعنى: كبَّه.

 وذكر البخاري في كتاب: الزكاة عقب ذَلِكَ: قَالَ أبو عبد الله: {فَكُبْكِبُوا} (فكَبوا) {مُكِبًّا}، أَكَبَّ الرجل إِذَا كان فعله غير واقع عَلَى أحد، فإذا وقع الفعل قُلْت: كَبَّه الله لوجهه وكببته أنا .
١٠- ولم يأت في لسان العرب فعل ثلاثيه يتعدى، وفعل رباعيه لا يتعدى عَلَى نقيض المتعارف إلا كلمات قليلة، منها أَكَبَّ الرجل، وكببته أنا.

قَالَ تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} وقال: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} .
١١- الضمير في (يكبه) يعود إلى المعطى، أي: أتألف قلبه بالإعطاء مخافة من كفره ونحوه إِذَا لم يعط، والتقدير: أعطي من في إيمانه ضعف؛ لأني أخشى عليه لو لم أعطه أن يعرض لَهُ اعتقاد (يكفر به فيكبه الله في النار. وأما من قوي إيمانه فهو أحب إليَّ فأَكِلهُ إلى إيمانه ولا أخشى عليه رجوعًا عن دينه ولا سوء اعتقاد) ولا ضرر عليه فيما لا يحصل لَهُ من الدنيا.
١٢- فيه الشفاعة إلى ولاة (الأمر) وغيرهم فيما ليس بحرام.
١٣- مراجعة المشفوع إليه في الأمر الواحد مرارًا إِذَا لم يؤد إلى مفسدة.
١٤- الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه.
١٥- أن الإمام يصرف الأموال في المصالح الأهم فالأهم.
١٦- أن المشفوع إليه لا (عتب) عليه إِذَا رد الشفاعة إِذَا كانت خلاف المصلحة، فإن كان ولي أمر المسلمين، أو ناظر يتيم ونحوه لم يجز لَهُ قبول شفاعة تخالف مصلحة ما هو ولي أمره.
١٧- أن المشفوع إليه إِذَا ردَّ الشفاعة، ينبغي أن يعتذر إلى الشافع ويبين لَهُ عذره في ردها.
١٨- أن المفضول ينبه الفاضل عَلَى ما يرَاه مصلحة لينظر فيه الفاضل.
١٩- أنه لا يقطع لأحد عَلَى التعيين بالجنة إلا من ثبت فيه نص كالعشرة من الصحابة وأشباههم، بل يرجي للطائع ويخاف عَلَى العاصي، ويقطع من حيث الجملة أن من مات عَلَى التوحيد دخل الجنة، وهذا كله إجماع أهل السنة.
٢٠- استدل به جماعة من العلماء عَلَى جواز قول المسلم: أنا مؤمن مطلقًا من غير تقييد بقوله: إن شاء الله، وهذِه المسألة فيها خلاف للصحابة فمن بعدهم، وقد سلف بيانها في أول كتاب الإيمان مبسوطة.
٢١- فيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إِذَا اقترن به اعتقاد بالقلب، خلافًا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار، وهذا ظاهر الخطأ يردُّه إجماع الأمة والنصوص المتظاهرة في تكفير المنافقين وهذِه صفتهم. 

قَالَ الإمام ابن الباقلاني وغيره من الأئمة -رحمهم الله-: هذِه الآية وهي قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} حجة لأهل الحق في الرد عَلَى الكرامية وغلاة المرجئة قالوا: وقد أبطل الله تعالى مذهبهم في مواضع من كتابه، منها قوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} ولم يقل: في ألسنتهم، ومن أقوى ما يبطل به قولهم إجماع الأمة عَلَى تكفير المنافقين، وكانوا يظهرون الشهادتين.
٢٢- وقال القاضي عياض: هذا الحديث أصح دليل عَلَى الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان باطن ومن عمل القلب، والإسلام ظاهر ومن عمل الجوارح، لكن لا يكون مؤمنًا إلا مسلمًا، وقد يكون مسلمًا غير مؤمن، ولفظ هذا الحديث يدل عليه .
٢٣- سبب نزول الآية السالفة {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} ما ذكره الواحدي: أن أعرابًا من أسد بن خزيمة قدموا عَلَى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك حين قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه فأنزلها الله تعالى.
اختصره ماجد بن محمد العريفي

يوم السبت ٣٠-٧-١٤٣٧هـ