١٨ – أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ – رضى الله عنه – وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: “بَايِعُونِى عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ به فِى الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ”. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
*************
١- وأخرجه البخاري -أعني: هذا الحديث- في خمسة مواضع: هنا والمغازي والأحكام ، وفي وُفود الأنصار.
، وفي الحدود
٢- ذكر البخاري هذا الحديث هنا؛ لأن الأنصار لهم من السبق إلى الإسلام بهذِه البيعة التي عقدت عَلَى الإسلام مع أن المهاجرين كانوا أسلموا ولم يبايعوا مثلها، فالأنصار هم المبتدئون بالبيعة عَلَى إعلام توحيد الله وشريعته حتَّى يموتوا، فحبهم علامة الإيمان -كما سلف في الحديث السالف- مجازاة لهم عَلَى حبهم من هاجر إليهم، ومواساتهم لهم في أموالهم، كما وصفهم الله تعالى، واتباعًا لحب الله تعالى لهم. قَالَ تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} وكان الأنصار ممن تبعه أولًا، فوجبت لهم محبة الله، ومن أحبه الله وجب عَلَى العباد حبه.
٣- النقباء -واحدهم نقيب- وهو الناظر عَلَى القوم. ونقباء الأنصار هم الذين تقدموا لأخذ البيعة لنصرة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
٤- هذِه العقبة هي العقبة التي بمنًى التي تنسب إليها جمرة العقبة. وقد كان بهذِه العقبة بيعتان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بايع الأنصار فيهما عَلَى الإسلام، ويقال فيهما: العقبة الأولى والعقبة الثانية. وكانت الأولى أول بيعة عقدت عَلَى الإسلام، وكان المبايعون في الأولى اثني عشر رجلًا من الأنصار كما ذكره النووي- ويأتي (خلافه) – ثمَّ كانت العقبة الثانية في السنة التي تليها، وكانوا في الثانية سبعين رجلًا من الأنصار أيضًا، كما ذكره .
وإيضاح ذَلِكَ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعرض نفسه عَلَى القبائل، فلقي رهطًا من الخزرج ستة عند العقبة في الموسم فقال: “ألا تجلسون أكلمكم؟ “. فعرض عليهم الإسلام، وكانت يهود أهل كتاب وعلم، وكانوا (هم) أهل شرك وأوثان، وكانوا قَدْ غزوهم في بلادهم، فكانوا إِذَا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيًّا يبعث الآن قَدْ أطل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أولئك النفر قَالَ بعضهم لبعض: تعلموا والله إنه لَلنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبِقنَكم إليه. فأجابوه وصدقوه.
وقالوا: إنا تركنا قومنا وبينهم حروب، فننصرف وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه، فعسى الله أن يجمعهم بك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. فانصرفوا إلى المدينة، ودعوا إلى الإسلام حتَّى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
والستة هم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث-وهو ابن عفراء-، ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر، وعقبة بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب، ومنهم من يسقط جابرًا ويجعل بدله عبادة بن الصامت.
فلما كان العام المقبل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلًا منهم خمسة من الستة المذكورين فلم يكن فيهم جابر والسبعة الباقون: معاذ بن الحارث -وهو ابن عفراء أخو عوف-، وذكوان بن قيس -قتل يوم أحد- وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة بن فضلة.
ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، فبايعهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند العقبة عَلَى بيعة النساء، ولم يكن أمر بالقتال بعد،
٥- قوله” وحوله عصابة” العصابة: الجماعة.
٦- البهتان: الكذب، لأنه يبهت من شدة فكره، ويبقى مَبْهُوتا منقطعًا.
وقال الخطابى: معناه هنا قذف المحصنات وهو من الكبائر.
٧- إنما أضيف البهتان إلى الأيدي والأرجل وليس لها صنع في البهت لوجهين:
أحدهما: أن معظم الأفعال تقع بهما، ولهذا أضيفت الأفعال والأكساب إليهما. قَالَ تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: ٣٠].
وثانيهما: معناه: لا تبهتوا الناس بالعيب كفاح كما يقال: فعلت هذا بين يدي فلانٍ أي: بحضرته.
٨- قوله: “ولا تعصوا في معروف” هو نحو قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: في طاعة الله؛ وقيل: في كل بِرٍّ وتقوى.
قَالَ الزجاج: والمعنى: لا يعصينك في جميع ما (تأمرهن) به؛ فإنك لا تأمر بغير المعروف.
٩- قوله: “فمن وفي منكم” أي ثبت عَلَى ما بايع به،
١٠- قوله: (“ومن أصاب من ذَلِكَ شيئا فعوقب به”) … إلى آخره المراد: غير الشرك.
أما الشرك: فلا يسقط عنه عذابه بعقوبته عليه في الدنيا بالقتل وغيره، ولا يعفي عمَّن مات عليه بلا شك.
١١- في الحديث دلالة لمذهب أهل الحق أن من ارتكب كبيرة ومات ولم يتب فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه. وحاصله أن من مات صغيرًا أو كبيرًا ولا ذنب لَهُ، بأن مات عقب بلوغه أو توبته أو إسلامه قبل إحداث معصية فهو محكوم له بالجنة بفضل الله ورحمته، ولا يدخل النار ولكن يَرِدُها.
كما قَالَ تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وفي الورود: الخلاف المشهور. وسيأتي إيضاحه في موضعه -إن شاء الله-. وإن مات مُصِرًّا عَلَى كبيرة فهو إلى الله تعالى، إن شاء عفا عنه فدخل الجنة في أول مرة، وإن شاء عاقبه بالنار، ثمَّ أخرجه فأُدخل الجنة، ولا يخلد أحد في النار مات عَلَى التوحيد،
وأخطأ من كَفَّر بالذنب وهم الخوارج، ومن قَالَ: لا بد من عقاب الفاسق وهم المعتزلة.
١٢- فيه دلالة لمذهب الأكثرين. كما نقله القاضي عياض أن الحدود كفارة لأهلها .
اختصره ماجد بن محمد العريفي
يوم الاحد ٢٤-٧-١٤٣٧هـ